TOP

جريدة المدى > عام > الطب السردي ودوره العلاجي والأخلاقي

الطب السردي ودوره العلاجي والأخلاقي

نشر في: 25 نوفمبر, 2023: 10:39 م

د. نادية هناوي

يعد الطب السردي من الموضوعات المبتكرة التي أتاحها تداخل التخصصات وتعددها، وهو بمثابة توجه ما بعد حداثي يسعى إلى توظيف السرد في المعاينة الإكلينيكية من أجل تقديم الرعاية الصحية اللازمة في المعالجة والشفاء.

ومنطلق هذا التوجه هو أن السرد حياة وأن الناس هم الرواة storytellers وفي قصصهم ما يساعد في فهم أحوالهم ومعرفة مشاكلهم الصحية والتعرف إلى تجاربهم كمعاناة وأعراض واستجابات وسلوكيات. وهذه هي سردية المرض ومن خلالها يتمكن الطبيب من تشخيص الحالة ووصف العلاج المناسب لها. فالقصة في الطب السردي عنصر أساس في الممارسة الإكلينيكية، يتخذها الطبيب أداة من أدوات التشخيص ومن دونها لا يتمكن من فهم الشخصية البشرية ولا التعرف إليها اجتماعيا وصحيا.

هذا ما يذهب إليه الباحث الكندي لورنس كيرماير، مؤكدا أن أهمية سردية المرض تأتي من كونها تسلط أضواءً كاشفة على تجارب المرضى وعوالم حياتهم وكيفيات انخراطهم فيها، وباستماع الطبيب المقابل clinical encounter لقصص المرضى يتمكن من تحليل حالتهم وفهم معاناتهم، إدراكا منه أن بالسرد نفهم أنفسنا فنسقط ما بداخلنا على الأشياء إسقاطا قد نقول من خلاله ما لا نعتقد أننا قادرون على قوله وقد نستحضر في ذاكرتنا مشاهد وأحداثا مرت علينا في الماضي البعيد أو القريب.

ويرى المهتمون بتداخل السرد بالطب أن سردية المرض موضوعة جمالية تماما كالشعر والقص، وفيها يشارك المعالج المرضى تجاربهم الشخصية فيزداد تعاطفه معهم. ومعلوم أن كثيرا من المفكرين وعلماء النفس كانوا قد أكدوا فاعلية السرد في الصحة والمرض، وانه وسيلة علاجية، تعكس قدرة الأفراد المعرفية والعاطفية على التحكم بسلوكهم والتواصل مع الآخرين.

أما أساليب الطب السردي في تأدية هذه المهمة العلاجية، فتتوقف على الطبيب والمريض معا؛ فأما الطبيب فباحترامه استقلالية المريض ومحافظته على معايير التواصل واختياره الأساليب المناسبة في تحليل قصص المرضى. وأما من ناحية المريض فبما يستعمله في سرده من أساليب بعضها شفاهية وبعضها الآخر كتابية كالرسائل والمذكرات واليوميات، مقدما من خلالها معلومات نافعة عن نفسه، بها يتمكن الطبيب المعالج من فهم وضع المريض الصحي وتبديد أوهامه أو زرع الثقة في نفسه، الأمر الذي يعزز استجاباته للعلاج لاسيما في الحالات المرضية المزمنة وحالات الإدمان وتعاطي المخدرات. بمعنى أن أداء الطبيب لوظيفته يعتمد على مدى تمركز السرد حول المريض ومدى تمكن المعالج – إثناء المعاينة الإكلينيكية – من تحقيق الأبعاد الإجرائية المرتبة عن دمج الطب بالسرد.

ومنذ عام 2004 تعمل مخابر البحث في كبريات الجامعات الأمريكية على تطوير موضوعة الطب السردي ومواجهة القصور في أساليب الطب الحيوي، وابتكار ما يساعد في المعالجة والرعاية واكتساب المهارات الخاصة كمهارة الإصغاء ومهارة تحليل وجهات نظر المرضى ومهارة التفاعل الاجتماعي النفسي المشترك/ البايوسايكولوجي ما بين الطبيب والمريض.

وتعمل الباحثة الأمريكية ريتا شارون من جامعة كولومبيا منذ سنوات على تطوير الأطر النظرية للطب السردي وتوسيع مجالاته وتفسير الكفاءات السردية وأساليب التدريب وكيفيات العمل التكاملي في تحليل قصص المرضى، وما قد تعكسه هذه القصص من سلوكيات ومعتقدات وظروف معيشية وغيرها.

وتشير الأبحاث في مجال الطب السردي إلى أن ضيق الوقت المتاح للمريض كي يعرض قصته هو الذي يجعل الرعاية الصحية دون المستوى المطلوب، وقد تفشل في تحقيق معالجة سريرية فعّالة وناجحة. فيكون مهما من ثم زيادة الوقت المخصص للقاء الطبيب بالمريض وهي تتفاوت من بلد إلى آخر ففي البلدان المتقدمة كالسويد وأمريكا يتراوح الوقت بين خمس دقائق إلى اثنتين وعشرين دقيقة. ويتناقص هذا الوقت تدريجيا في البلدان النامية ودول العالم الثالث والمناطق الفقيرة.

وفي إطار التركيز على الرعاية الصحية تغدو لمادة التربية الصحية أهمية كبيرة في مؤسسات التربية والتعليم الأولية والثانوية والعليا كما أن للعمل النقابي الصحي دوره أيضا في توجيه الاهتمام نحو صحة الأفراد ورعايتهم صحيا، وتمثل الاتجاهات المستقبلية في مقاربة الطب الحيوي بالعلوم الإنسانية عامة والسرد القصصي وعلم النفس الاجتماعي خاصة. ومن المهم في هذه الاتجاهات أن تكون لسردية المرض فاعليتها في غرس الأمل وتقليل المخاوف من قبيل تمييز المرض عن الكارثة أو المساعدة على معايشة الإعاقة من خلال توضيح طبيعة الوظائف الفسيولوجية للجسد وعمل الجهاز العصبي.. الخ.

وجزء كبير من معاناة المريض يتمثل في أنه قد لا يعبر التعبير الكافي عن حالته وما يعانيه من أعراض وما يقلقه من مخاوف، وهنا تظهر أهمية دراسة وضع المريض النفسي وعلاقته بعائلته والسياقات الاجتماعية والثقافية التي يمارسها وتأثير وسائل الإعلام وشبكات التواصل التي من خلالها يتزود المعالج بما يسميه ميشيل فوكو" معلومات الخطاب" فيتمكن من معرفة الأسباب وتوقع النتائج كما أن للتغاير اللساني heteroglassia المصطلح الذي اجترحه ميخائيل باختين أهميته في المقابلة السريرية لأن من خلالها يتمكن الطبيب من معرفة ما يتضمنه تعدد الأصوات من سياقات تحتمل معاني جديدة ومؤلفين آخرين؛ فتغاير اللسان هو انعكاس لاستعارات المريض وفيها تنعكس أصوات العائلة والأصدقاء والزملاء بالإضافة إلى منصات التواصل الاجتماعي. وكلها توفر للطبيب صورا كافية لفهم وجهة النظر. وقد يحرض الطبيب المريض على إظهار وجهة نظره من خلال توجيه السؤال التخييلي(ماذا لو). فيكون للطبيب دوره المباشر وغير المباشر في سردية المرض التي هي عملية مشتركة من اجل الشفاء التام، ومن خلالها تتبدد مشاعر القلق والخوف فيطمئن المريض.

وبهذا يتأكد ما للطب السردي من دور أخلاقي؛ أولا لأنه يتيح للطبيب فهم مشكلات المرضى الصحية ومعالجتها. وثانيا انه ينظر إلى المريض بوصفه منتجا للسرد ومساهما في حل مشكلته بنفسه. وثالثا ما توفره سردية المرض من صيغ جديدة وإمكانيات مبتكرة في احتواء المرض أو التكيف معه، وهو أمر يعتمد على المريض ومدى تمكنه من سرد قصته سردا ذاتيا متماسكا معبرا عن مخاوفه ومعاناته. بيد ان هناك حالات يتردد فيها المريض فلا يشارك الطبيب قصته أو يفتقر إلى الكفاءة السردية أو أن تجاربه لا تسمح له بتنظيم أساليب السرد المناسبة، فتكون قصته مفككة تتسم بالفوضى وعدم الاكتمال واللاانسجام.

ومثل هذه الصعوبات في ممارسة السرد، تضعف قدرة المرضى على جذب اهتمام المعالج وتقلل فرص تفهمه لهم وتقديم الرعاية الصحية المطلوبة. وأشارت بعض الدراسات إلى أن طلبة كليات الطب يظهرون انخفاضًا في معدل التعاطف مع المرضى خلال مدة تدريبهم على العمل السريري. من هنا ينصح المتخصصون بضرورة تطوير مهاراتهم المهنية في ممارسة الرعاية الصحية واعتبار سردية المرض جزءًا لا يتجزأ من وظيفة الطبيب.

ويستطيع الطب السردي أن يواجه التأثير السلبي للتعليم الطبي التقليدي من خلال التركيز على هذه المهارات واعتبارها جزءا من معايير الاعتماد والكفاءة من خلال دمج المناهج الدراسية بين الطب والعلوم الإنسانية الأخرى مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والدراسات الأدبية.

وبسبب ما أظهرته نتائج الدراسات من وجود تحسن كبير في مستوى طلاب الطب بما عرفوه من أساليب سردية جديدة في الفحص السريري والتقييم والتشخيص والمعالجة، أخذت كليات الطب في كبريات الجامعات العالمية تهتم خلال العقدين الماضيين بموضوعة الطب السردي ووضعت مناهج دراسية توفر للطلاب فرصا كثيرة لاستكشاف المزيد من القيم الثقافية المتعلقة بمفاهيم الصحة والمرض وتعزيز مهارات الرعاية الصحية من قبيل الإصغاء للمريض وإجراء المقابلات الإكلينيكية والتحليل النقدي لسرديات المرض وغيرها.

وأنجزت جامعة ميونيخ التقنية في ألمانيا برنامجًا متعدد التخصصات في الطب السردي يهدف إلى تطوير التواصل بين الطبيب والمريض. ويجمع هذا البرنامج بين الدورات الدراسية والندوات في العلوم الإنسانية الطبية وعناصر تقنيات الطب السردي. وينصب الاهتمام بالدرجة الأساس على تحسين الفعالية السردية وبما يمكِّن الأطباء من التعامل مع العلوم الإنسانية بطرق مبتكرة يمكنها أن توفر قدرًا أكبر من الإنجاز المهني. ومثل هذه التجربة الألمانية في تعدد التخصصات نجدها في جامعة كولومبيا بنيويورك وفيها تم تطوير العمل على الطب السردي عبر برنامج ماجستير مفتوح ومعد لطلاب الطب المهتمين بإجراء البحوث في هذا المجال.

ومن المهم هنا تأكيد حقيقة أن لا صيغ جاهزة في الطب السردي يمكن الاعتماد عليها، سواء من ناحية إنتاج المرضى للقصص ضمن سياقات معينة أو من ناحية تلقي الطبيب أو آخرين - قد يكونون مشتركين في المعاينة الإكلينيكية- لسردية المرض وتحليل ما فيها من معاناة ومخاوف. وتبقى الحاجة قائمة إلى مزيد من الأبحاث في مجال الطب السردي وتقييم تأثيرات مثل هذه الممارسات على نطاق واسع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram