اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في اقتفاء أثر إنسان عصر النهضة

في اقتفاء أثر إنسان عصر النهضة

نشر في: 28 نوفمبر, 2023: 10:43 م

ماريو ليفيو

ترجمة : لطفية الدليمي

أحدُ التوجّهات التي شهدناها خلال القرون القليلة الماضية هو تزايد نزعة التخصّص والخبرة المعمّقة في حقل معرفي واحد ، ومابرح هذا التوجّه يتعاظم يوماً بعد آخر.

مثالُ إنسان عصر النهضة Renaissance Man - أو الفرد واسع المعرفة والاهتمامات Polymath والشغوف بحقول معرفية عديدة – صار وكأنّه مثالٌ ينتمي لنوع بشري منقرض لاعهد لنا به . لم يعُدْ لنا في عصرنا هذا مايكافئ مثال ليوناردو دافنشي (الذي كان شخصية مميزة ومتفرّدة للغاية حتى في عصر النهضة ذاته ؛ بل لم يعُدْ لنا مايمكن عدّه نظيراً لغاليليو غاليلي .

إنّ من الحقائق التي لم تشهد شيوعاً واسعاً (وبالتالي صارت أقرب لحقيقة مجهولة) أنّ غاليليو كانت له معرفة واسعة بالانسانيات إلى جانب مكتشفاته التي شكّلت منعطفات ثورية في علم الفلك والميكانيك . دَرَسَ غاليليو الرسم (تلك المهارة التي وظّفها غاليليو لاحقاً لعرض جهوده في رصد القمر) ، كما أبدى شغفاً واسعا بأعمال الشاعرين العظيميْن دانتي و أريوستو (عندما كان غاليليو بعمر الرابعة والعشرين ألقى محاضرتيْن حول جحيم دانتي) . إلى جانب هذا كتب غاليليه مقالة يقارنُ فيها فنّ الرسم بفنّ النحت ، ولطالما تمّت إستشارته من قبل رسّامين عظماء معاصرين له من أمثال تشيغولي Cigoli و أرتيميسيا غينتيليشي Artemisia Gentileschi.

هل ثمّة حاجةٌ لأمثال " أناس عصر النهضة " هؤلاء في عصرنا هذا ؟

تدلّنا مساءلة إستكشافية دقيقة لبحث أجراه عالم النفس في جامعة شيكاغو ميهالي كسيزينتميهالي Mihaly Csikszentmihalyi أنّه ربما توجد مثل هذه الحاجة . أجرى عالم النفس المشار إليه دراسة بحثية معمّقة لطبيعة الابداع البشري من خلال تجميع استنتاجات محدّدة حصل عليها من مايقاربُ مائة حوار مع أفراد معروفين بقدراتهم الابداعية الخلاقة في طيف واسع من الحقول المعرفية والمناشط الانسانية . إنتهى هذا الباحث السايكولوجي إلى أنّ كون المرء ذا قدرة عبقرية لايبدو شرطاً مسبقاً لازماً لتحقيق إبداع مشخّص في إحدى مراحل حياته ؛ لكنّ الشرط الذي بدا أنّه لازمٌ لكلّ فعالية إبداعية هو فضول وشغف متميّزان ولاحدود لهما . في هذا الشأن لاحظ العالم السايكولوجي : " من الناحية العملية فإنّ كلّ فردٍ حقّق مساهمة إبداعية غير مسبوقة في أي حقل معرفي لابدّ أن يتذكّر دوماً شعوره بالرهبة والشغف إزاء أحجيات الحياة الغامضة ، ويمتلك دوماً خزيناً من الحكايات حول جهوده الحثيثة في البحث عن حلول مناسبة لهذه الاحجيات ...... " .

عندما تفكّرُ في هذا الامر فإنّ هذه الحقيقة - حقيقة أنّ الفضول والشغف قد يكون الشرط المسبق اللازم لكلّ فعل إبداعي وإن كان ليس بالشرط الكافي لوحده – قد لاتبدو حقيقة باعثة على ذلك القدر العالي من الدهشة . في نهاية المطاف فإنّ كلّ الافعال الابداعية تنقدحُ في العقل غالباً عبر توظيف أفكار من حقل معرفي محدّد وتطبيقها في حقل معرفي آخر . إنّ إمتلاك القدرة على تحقيق هذا الفعل الابداعي يتطلّبُ التمرّس في حقول معرفية خارج نطاق الحقل التخصصي للفرد . تقدّمُ لنا قصّة المختص بالكيمياء الفيزيائية والحاصل على جائزة نوبل إيليا بريغوجين Ilya Prigogine مثالاً مدهشاً عن المسار المعقّد (لكن الذي يُؤتي ثماره في نهاية الامر) الذي يمكن من خلاله أن يقود الشغف والفضول إلى تحقيق منجزات إبداعية خلّاقة .

تشابه حال غاليليو وبريغوجين من حيث اهتماماتهما الموجّهة للإنسانيات ؛ لكنّ الضغط العائلي الذي لاقاه بريغوجين من جانب عائلته دفعه لدراسة القانون تلبية لرغبة العائلة (لنتذكّرْ هنا أنّ والد غاليليو أجبره على دراسة الطب) . قادت دراسة القانون إلى تعظيم اهتمام بريغوجين بفسيولوجيا العقل الاجرامي ، وهذا مادفعه للإستغراق المكثّف في دراسة الكيمياء العصبية Neurochemistry كمحاولة حثيثة من جانبه لفكّ ألغاز العمليات التي تحصل في الدماغ البشري وقد تقود بعض هذه الادمغة لإقتراف أفعال إجرامية . عندما أدرك بريغوجين أنّ العلم العصبي ليس في طور من التقدّم يمكنه تفسير السلوك الانساني أو التنبّؤ به فقد إعتزم حينها ، وكفعل تعويضي عن دراسة الكيمياء العصبية ، البحث في تفاصيل العمليات الأكثر أساسية في الطبيعة ، وهذا ماقاده إلى دراسة الكيمياء الأساسية للنُظُم ذاتية التنظيم Self – Organizing Systems . في هذه النظم حقّق بريغوجين أعظم مساهماته العلمية والتي جعلت منه أحد أعظم العقول العلمية في هذا المبحث المعرفي .

تبدو الرحلة الفكرية لغاليليو شبيهة في بعض جوانبها مع رحلة بريغوجين . شعر غاليليو بالملل الغامر في دراسة الطب التي كانت تتطلّبُ في وقته قبولاً أعمى - ومن ثمّ التسليم المطلق - بالقواعد والآراء التي سطّرها عالم التشريح الاغريقي الاشهر جالينوس . كلّما كانت مناسيب الملل تتعاظم في روح غاليليو كان يتذكّرُ أنّ والده (الذي كان يعمل في حقل النظريات الموسيقية) تحدّث بين حين وآخر عن أعاجيب الرياضيات ، وبعد أن تنصّت غاليليو بكيفية غير مقصودة على بضع محاضرات في الرياضيات أصابه التيه حبّاً بالرياضيات ورغبة متفجّرة لدراستها ، وحينها تملّكته قناعة كاملة أنّ الرياضيات هي اللغة التي كُتِب بها الكون .

قبل مايقاربُ الخمس سنوات ، وبعدما أجريتُ حواراتٍ مع تسعة أفراد معروفين بشغفهم الطاغي وإنجازاتهم الابداعية الفائقة (منهم : الفيزيائي الشهير فريمان دايسون Freeman Dyson وعازف الغيتار ذائع الصيت بريان ماي Brian May) إكتشفتُ أنّ هؤلاء التسعة جميعاً تشاركوا سماتٍ مشتركة منها قبول الانغمار في شتى أشكال التحدّيات المعرفية في حقول بحثية ومهنية جديدة ليست لهم بها معرفة مسبقة أو مراسٍ قديم . على سبيل المثال فإنّ بريان ماي - فضلاً عن مهنته الموسيقية اللامعة وكونه عضواً في أحد الفرق البحثية لوكالة ناسا – هو أحد المدافعين عن حقوق الحيوان (وهو في هذا الحقل لايبدو أنّه يتعب أو يملّ او يتقاعس) ، هذا إلى جانب أنّ ماي هو أحد الخبراء العالميين في التصوير المجسّم stereophotography في العصر الفكتوري .

الاهتمامات متنوّعة الاطياف ، والمعرفة الواسعة يمكن أن تشعل فتيل الابداع العبقري . هذه الحقيقة تدفعنا للمناداة بإحياء فكرة " أناس عصر النهضة People Renaissance " وجعلها أمثولة مختبرة في عالمنا الحديث .

هل تعني هذه المناداة التوقّف عن التخصّص في حقل معرفي محدّد ؟ كلّا بالتأكيد !! . منجزات عظمى تتحقّق كلّ يوم على يد خبراء يخصّصون جزءاً ليس بالقليل من حياتهم لحقل معرفي واحد ؛ لكن برغم هذه الحقيقة فإنّ تطوّريْن عظيمي الاهمية في العقود الاخيرة أبانت أنّ من الممكن أن يكون الفرد متخصّصاً وفي الوقت ذاته أحد " شخوص عصر النهضة " . أحد هذين التطوّرين يكمن في حقيقة أننا نعيش أطول ممّا عاشه أسلافنا في عصر النهضة ؛ لذا فإنّ لدينا المزيد من الوقت للإنغمار في البحث عن معرفة إضافية وإتقان مهارات جديدة . التطوّر الثاني أنّ لدينا قدرة عظيمة اليوم في إمكانية الولوج إلى مناجم هائلة من المعلومات والمعرفة التي هي طوعُ رغبتنا متى ماشئنا بلوغها سريعاً في وسيلتنا الحاسوبية .

جوهر الامر كله - ببساطة - هو أن نتعلّم ملاحظة كلّ شيء والتدقيق في كلّ جزئية حتى لو بدت عابرة ليست بذات أهمية . الفيزيائي الاشهر الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان Richard Feynman عبّر عن الامر بأفضل مايمكن عندما كتب : " أتطلّعُ دوماً في كلّ شيء - مثل أيّ طفل مسكون بالشغف - بحثاً عن الاعاجيب التي أعلم أنني سأجدها . قد لاأجدها في كلّ الاوقات ؛ لكني أعلم أنني سأجدها بين الحين والآخر ..... " .

مصادر إضافية للقراءة

- Livio, M. (2020). Galileo and the Science Deniers. New York: Simon & Scuster.

- Livio, M. (2017). WHY? What Makes Us Curious. New York: Simon & Schuster.

* المادة المترجمة في هذه المقالة منشورة بعنوان (Back to the Renaissance) في مجلّة Psychology Today بتاريخ 31 تمّوز (يوليو) 2020 . أدناه الرابط الالكتروني للمقالة المنشورة :

https://www.psychologytoday.comr/us/blog/why/202007/back-the-renaissance

** ماريو ليفيو Mario Livio ، PH. D : أستاذ فيزياء فلكية . ولد في بوخارست (رومانيا) عام 1945 . ألّف العديد من الكتب منها : غاليليو ومنكرو العلم Galileo: And the Science Deniersالذي حقّق مبيعات كبرى . متحدّث كثير الاستضافة في برامج شعبية وحلقات علمية مثل : 60 Minutes و Nova و The Daily Show . (المترجمة)

*** كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الاردن

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram