حيدر المحسن
اسمها حانة روج (بالجيم المُضاعفة)، وتعني بالعربيّة (الشمس)، وتقع على بُعد بضع مئات من الأمتار عن قلعة أربيل. لكنّ المسافة تبدو قريبة للغاية، فأنت تطير إليها خفيفا وسريعا، كأنما على ظهر جناح.
النَّدامى هنا نفسُهم كلّ يوم، وأسماؤهم ثابتة على الطاولات، فهم أسرةٌ في بيت واحد. يقول سعدي يوسف: "أدخلُ الحانة الغريبة، مثلما أدخلُ بيتي"، لكنّ الشاعر لم يقصد الحانة (اليوميّة)، إن صحّ التعبير، واختار أن يقول (الغريبة)، أي تلك التي تقع في أيّ بقعة على سطح البسيطة، وإن كانت في أرض آكلي لحوم البشر. النبيذ المشعشع الحلو في الكؤوس فعّال على نحو سحريّ في جعلهم طيّبين وديعِين لذيذي المعشر.
في مدينة أربيل تجد الأوروبيّين في كلّ مكان، أمريكان وألمان وروس... أكثر مما تلتقيهم في باريس الشرق سابقا، أي بيروت. أربيل العراق غدت تنافس بيروت الشام، وتتفوّق عليها كثيرا. يا للزمان القُلّب الدوّار، وهذا بالتأكيد ليس موضوع حديثنا، فكلّ شيء جائز في هذا الزمان، وهو الأمر الذي يُزيد من سحر الحياة، فلو بقيت بابل وطيبة وبخارى، مدنا عصيّة على الموت والاندثار، لصارت الحياة مملّة مثل رواية واقعيّة لا يقرأها ويؤمن بها غير اللابثين في الدرك الأخير من السذاجة في التفكير والإحساس من الناس.
في المدينة كثير من الحانات، ولسبب غير معلوم، صارت مرساتك تضرب شاطئ "الشمس"، ويكون المستقرّ عندها في المساء. هنالك في عرض البحر جبال سحريّة لا تمرّ بالقرب منها سفينة، إلّا وعمل المغناطيس العظيم في قلب الجبل على أسرها. لا أدري إن كانت هذه القصّة حقيقيّة، أم أنها من بنات خيال بورخيس، في إحدى قصصه. وكان السفّانة يحسبون لهذه الجبال قبل بدء الرحلة ألف حساب، لأن لا نجاة منها ولا مهرب. وفي الأوديسة خبر السيرينات "عرائس البحر". كنّ ينشدن أغاني يسحرن بها من يمرّ في طريقهنّ، فيبقى بجوارهنّ مدى الحياة. ولكي ينجو من هذا المصير، ملأ أوليس، بطل الملحمة، آذان طاقم سفينته بشمع النحل، في أثناء تجذيفهم حيث تغني السيرينات، ليمنع سحرهنّ الوثيق والحازم.
لكن السحر في مقصف "الشمس" أوثق، وأكثر حزما وشدّةً. ودخل الحانة في ذلك اليوم ثلاثة رجال روسيّون، جلسوا عند المائدة القريبة. اثنان منهم ينتمون إلى جنس العمالقة، والثالث نحيف وطويل للغاية، يأكل بشراهة، ولم يقلْ كلمة طوال السهرة. طلبوا لترا من فودكا (أبسليوت) في دورق ثلج، مع علب بيرة ممزوجة بالويسكي من العيار الثقيل، أحاطت بالدورق مثل نجوم حول هالة القمر. كأس الروسيّ من الحجم الكبير، يملأه إلى ثلاثة أرباعه بالبيرة، وكي يكون دِهاقا، يَزيده بالفودكا الأبسليوت. بمرور الوقت امتلأت المنضدة بعلب البيرة، وأخذت تهبط إلى سلّة على الأرض، حتى امتلأت للأخير.
المطبخ هنا أكثر من رائع، وأسعار المأكولات زهيدة. مع هذا لم يطلب الروس أيّ شيء، ولا حتى قنينة ماء. كانوا يحملون معهم عندما دخلوا الحانة كيسَ نايلون كبير فيه كاجو (كازو)، وعلبة كرتون فيها كومة أقراص بيتزا. لم يطلبوا من النادل صحنا فارغا، وكانت الأيدي تمتدّ مباشرة إلى الكيس والعلبة، وأحصيتُ الصحون على مائدتي، وكانت اثني عشر. ثم أخذ العملاقان يهدران بالكلام، ويتناولان بين حين وآخر حبّة كاجو، بينما انهمك ثالثهم، الطويل والنحيف وشاحب الوجه، بلَهمِ حفنات من المكسّرات، ولُقُمات كبيرة من البيتزا.
أقام بيكاسو حفل عشاء لأصدقائه من الحزب الشيوعي السوفيتي، لمّا انتهى من رسم بورتريه لستالين. ولاحظت زوجته "فرانسواز جيلو" أنّهم يأكلون كميات غير معقولة من الطعام، وأجسادهم ضامرة وضاوية. دافع الرسّام عن ضيوفه، فهم يريدون تأكيد النظريّة المادّية حول المائدة، مثلما في أيّ مكان آخر.
الضوء الأخضر في الحانة يرمش، والعملاقَان يعلو صوتهما في الحديث. كانا يحاولان، على الأرجح، شرح مباهج عهد (بوتين) إلى (رفيقهم) الطويل والهزيل والشاحب، الذي كان غير مقتنع بما يقولون، ويكتم غيظه بواسطة الكازو والبيتزا، حالما بعصر ستالين السعيد.