ستار كاووش
ما أن خطوتُ داخل متحف كنستهاله بمدينة هامبورغ، حتى أشرقتْ أمامي مئات اللوحات التي توزعت في قاعات لا حصر لها. بدأتُ بمشاهدة مجموعة من الايقونات، ثم مررتُ بلوحات عصر النهضة ثم الباروك والركوكو. توقفتُ هنا وهناك أمام الكثير من اللوحات التي لفتَتْ انتباهي وسحبتني نحوها،
وحين وصلتُ الى واحدة من الصالات الزاخرة بفن القرن التاسع عشر، فوجئتُ بمجموعة من الأشخاص، يجلسون بهدوء على كراسٍ متشابهة، من النوعية التي تطوى ويسهل حملها، وقد انشغلوا بإعادة رسم واحدة من لوحات المتحف التي كانت معلقة أمامهم مباشرة، فيما تقدمتهم امرأة ممتلئة، أعتقد انها إستاذتهم لأنها كانت تعطيهم بهدوء بعض النصائح والملاحظات، ورغم ان بعض هؤلاء قد تجاوزوا الثمانين من أعمارهم، لكنهم انشغلوا بمتعة وانسجام يرسمون المشهد الطبيعي الذي يظهر في لوحة المتحف، غير مبالين بباقي الزائرين. تأملت المشهد الذي يعطي معنى لسنوات العمر، ويجعل كل دقيقة من حياة الانسان لها جدوى، ثم مضيتُ لإكمال مشاهدة باقي الكنوز. المتاحف هي بيوت من السحر، وهي الغرف التي تغدق عليَّ بالهدايا الملونة، إنها المدارس التي لا أشبع منها، لأنها تمنحني زاداً من الجمال، وكل هذا بتذكرة صغيرة بحجمها وثمنها، لكنها تفتح أمامي هذا العالم الفسيح، وهذا التاريخ من الجمال الذي لا يريد أن ينتهي.
وما أن دخلت القاعة المحاذية لهؤلاء المنشغلين بالرسم، حتى رأيتها من بعيد، وكإنها كانت بإنتظاري، وأقصد لوحة الفنان بونار، ياله من عمل مذهل رغم بساطته، لكنها بساطة عصية على الكثيرين، فالفن بأساسه وروحه شيء بسيط لكن هذه البساطة من الصعب التوصل اليها، وهذا هو فحوى الفن وسحره، بل حتى عمقه أيضاً. إقتربتُ من اللوحة التي كانت بورتريت للبروفيسور والمستكشف فرانس ستولمان، وتوقفتُ أتأمل حركة الفرشاة الطرية، وأمعنتُ النظر بتفاصيل اللوحة التي إستعدتْ معها واحداً من أجمل أيام إكتشافاتي الفنية المبكرة، حين كنت لا أزال في الصف الثاني بأكاديمية الفنون في بغداد، كنت وقتها أسحب خطواتي في سوق السراي، وفجأة توقفتُ أمام مكتبة محمد الفلفلي الذي ربطتني به حينها معرفة جيدة لأني كنتُ أكلفه بالبحث عن بعض الكتب، التي كان يدخرها لي بأريحية. وهناك على بسطة المكتبة الأمامية المرتفعة، إستقر كتاب بونار الذي لم أكن قد عرفت لوحاته من قبل، تصفحت الكتاب واذا بي أمام فنان يستعمل الألوان بطريقة في غاية الغرابة والسحر والحساسية، فنان لا يشبة الانطباعيين ولا التعبيريين، يحلق خارج سرب الفنانين الذي أعرفهم ويعمل في منطقة مُحيرة وفريدة، وهذا ما كنتُ أريده وأبحث عنه، وبعد أن صار ذلك الكتاب البعيد بحوزتي، تغيرت لوحاتي الى الأبد، بل تغير فهمي للون والمعالجات. كان كتاب بونار هو النور الذي إنبثق من وسط سوق السراي ليرافقني طوال حياتي، ورغم إن أسلوبي في الرسم قد مرَّ بتغيرات كثيرة وانتقالات مختلفة، لكن بقي بونار ذلك الفنار الذي يستدرجني ضوء أعماله، وأنا بطبيعتي لا أكف عن البحث عن لوحاته وسط المتاحف المختلفة التي أزورها. يالها من تجربة جمالية هي وقوفي أمام هذا البوريت الذي من الواضح انه قد رسمه بجلسة سريعة واحدة، برقشات واضحة حيث ما زال أثر الفرشاة ظاهراً. هنا يسترخي البروفيسور ستولمان على كرسي أثير، حيث أسدَلَ احدى يديه على مسند الكرسي، فيما أمسكَ بيده الثانية سيجاراً كبيراً. خلفه طاولة صغيرة وأثاث بسيط، وقد بانت على الجدار الخطوط العريضة لورق الجدران الذي يعود الى بداية القرن العشرين. ينظر البروفيسور الى يمين الرسام وقد علقت بقايا إبتسامة على شفتيه، وكإنه قد سمع ملاحظة من الرسام وأرادَ التعليق عليها. من الواضح ان البروفيسور قد هيأ نفسه، وإهتم بمظهره جيداً قبل الجلوس أمام الرسام، يتضح هذا من خلال بدلته التي تلائمت مع ربطة العنق وانسجمت أيضاً مع شعره الأشقر الذي امتزج مع بعض الشيب، يُضاف الى ذلك لون الكرسي الذي تناغم مع كل المفردات. حين تنظر الى لوحات بونار وتتفحصها جيداً، تعرف لماذا يعتبره نقاد ومؤرخي الفن واحداً من أهم المُلونين في تاريخ الرسم صحبة ماتيس وشاغال. وأنا كرسام أُسمي الفترة التي عاش فيها بونار بالفترة المضيئة في الرسم الفرنسي، حيث تجاوز الانطباعية ورسم لوحات كإنها نافذة نحو حداثة القرن العشرين، من خلال تبسيط الأشكال وزخرفة اللون، حيث غرف المعيشة والأثاث وورق الجدران المزخرف. اشتهر بونار برسم النوافذ المفتوحة والأبواب التي يشع منها الضوء، لكن تبقـي أشهر أعماله هي تلك اللوحات التي رسمها لزوجته ماريا بورسين في بانيو الحمام، فهي كانت تعاني من إلتهاب الحنجرة لذا يتعين عليها الاستحمام كثيراً،. هكذا قام بونار برسم ثلاثمائة وخمسين لوحة لحبيبته أثناء الاستحمام.