اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > محنة تحولات المُدن البريئة

محنة تحولات المُدن البريئة

نشر في: 6 ديسمبر, 2023: 10:58 م

خضير فليح الزيّدي

وقد ورد في الوصايا البريئة:

·عزيزي المُستجد والسائر إلى سوق البالة في بداية كل موسم: "لا يغرنّك طريقة عرض المعطف الشمعي أو القمصلة الشوما المشنوقان بكلّابين على واجهة محل "بالة الأجيال"، فثمة خديعة تنتظرك في آخر الصفقة قبيل إتمامها.

·تمهّل قليلا واترك للجولة مسارات التفقّد والبحث لأكثر من عرض مغرٍ، وفي كل مرة عليك أن تحفظ صورة ما خُفي من المستعمل تحت التكية، فالمعروض في هذا الصباح ليس بـ " كسر بالة جديد"، بل هو مدَوّر وبائر من العام الماضي.

·ويا عزيزي لا تفتّش كثيرا في جيوب القطعة المنتخَبة طامعا بورقة دولار خضراء في جيب القمصلة الجلدية، فمواطنو العالم الغربي يرزحون من ثقل تعثّر الحركة الاقتصادية، وتلك هي من مقومات عصر قتل البراءة في اقتصاديات السوق المنحرفة.

·وأنت تحشر نفسك حشرَ القيامة في يومها، فمن اجل الغوص بين الجماعات المتبضّعة في سوق المُستعمل/ المستورد، تفقّد محفظة جيب بنطلونك الخلفي. أما كان الأجدر أن تأخذ خرائط سوق المُستعمل في بغداد كلها قبل هذا التيه؟ فالبداية الصحيحة -أخي المتسوّق-هي في السير زحفا من سوق "البالة" في الكاظمية تاركا خلف ظهرك عربات الدفع وأكوام مخلفات الغرب من أربطة العنق الحريرية من التي أهملت حتى تراكمت كسمك نافق في عربات الدفع. ربطات عنق تعاني الإهمال والمذلّة بعد غياب عصر موضتها التي رسمت عنوان الأناقة آنذاك.

· وأنت في طريقك نحو أحد المداخل الخمسة. أنظر يمينا ربما تجد ضالتك حتما معلّقة بيد رجل عجوز، أو تذهب شمالا نحو عروض الـ "طقّة نازل" في بالات جكوك عند أقصى جانب الكرخ، وإنْ لم تعثر ما يجدّد مظهرك، فما عليك إلاّ الانتقال عبر جسور بغداد لتحطَّ في معقل البالات الرئيس في جمهورية الباب الشرقي. مدينة البالات ومأوى الجلود والكتان والجينز والشوما المستعمل/النظيف. إن تهت الطريق فرائحة النفثالين ورائحة يوريا بول سكارى الليلة الفائتة، لهي خير دليل لتحقيق الاتجاه الصائب لأحد المداخل المتشعبة نحو معطف بارز لرجل المافيا وقع في قبضة العدالة الزائفة.

·حدّد بدقة هدفك قبل الولوج في ظلام درابين معقل البالات في الباب الشرقي أو بالة الكاظمية أو هرج الميدان. لا تهتم كثيرا لصراخ الباعة وطريقة ترويجهم لتلول البنطلونات الكابوي لرعاة بقر هاربة. ثم قم بفحص القمصلة الجلدية بجمرة السيجارة وشاهد أصالة الجلد الأصلي من الصناعي المغشوش. أما بنطلون الجينز من ماركة "Lee" فحدّق جيدا بالقطعة الهجينة على القفا. فيما القميص الصحراوي الذي تبحث عنه فهو لمنقّب آثار تاه في الربع الخالي، ولا تجد في جيبه سوى زر احتياط. فيما الّلفّاف الماروني فهو لبواب مرقص على ساحل الكاريبي. وتلك بعض من وصايا مجانية لخبرة متسوّق بالات عتيق. فخذْ هذه الوصايا من غير حساب.

******

(لم يعد للبراءة من موقع في عالم اليوم بعد هجمة التحولات الاقتصادية القصدية. فالبراءة بكل تجلياتها كانت قائمة ومنتشرة في الشارع أو السوق أو في تنظيم أثاث المنزل أو في لون المعطف أو حقيبة اليد، لكنها ذابت وانمحت أثارها، غير أن المُعطى الجمالي بقي محتفظا بخيط رفيع يرتبط مع خيط البراءة، وإذا ما انتزعنا قسرا عنصر الجمال عن خيط الفن سيتحول حتما إلى فوضى بدلا عن طيف البراءة)

إنه من دواعي سعادة زبائن البالات لا يوجد بينهم من يُحرم من شراء قطعة فريدة من البالة لغاية هذا اليوم. رجال الدين لم يتدخلوا بعد في المحظور والجائز والمضطر. فيما فرضية لعنة العولمة فهي تساعد على الانتشار وسرعة دخول شوالات البالة المستوردة إلى البلد، الأمر الذي ساعد لأن تكون بغداد قطع ملونة من بالات مستعملة من أقصاها إلى أقصاها. كل شيء هنا بالٍ ومستعمل ولا بديل سوى الرديء.

يعتقد خبراء البالة، أن لكل بالة تفتح صباحا جمهورها الخاص. ولكل واحدة سوق ولكل بالة سعر محدّد فمنها بالكيلو. تفتح وتنتقي شرط الخامة والقماشة والأصالة والماركة. إنه عالم المستعمل للإنسان "اللا منتمي الجديد" من هواة البالة والأنتيكة والمستعْمل النظيف "اللّقطة". ولا تستغرب يا عزيزي إن وصل الأمر إلى الملابس الداخلية المستعملة وتلك هي المصيبة الكبرى في عالم اللا انتماء الحديث. ولو سألت متسوق عن طريق الفضول: "كيف تلبس لباس غيرك يا أخي؟" سيأتي الجواب: " عادي جدا. نحن في حصار دائم. ما زالت الفاقة ذاتها لم تنتهِ. فكم من مواطن تعبان محاصر ستر عورته بكالسيون زوجته."

ونحن صغار نبتعد عن ملابس الموتى لأنها في المرويات الشعبية نجسة، وربما تدفن أو تحرق إلى زوال، لكننا في عالم اليوم نخرج ملابس الموتى من تحت المدافن لنتمظهر بها كل منّا على طريقته. إن تجّار المستعمل يحصلون على الملابس من الجمعيات الخيرية والكنائس والمنظمات مجانا ويبيعونها قبيل التصدير بأوزان مختلفة منها ما هو بميزان الأطنان أو الكيلو ويصدرونها لبلدان قاصرة بدت تعاني من ثقل البراءة واللا انتماء في إدراك منتج الأزياء العالمية بماركاتها العالمية.

*****

في أول برد الشتاء تنتعش سوق البالات للملابس المستعملة هنا أو في بلدان ما بعد الحروب. أن تشتري قمصلة بالفرو الزائف يعني أنك تُدفّئ جسدك وتنعش روحك بما يناسبها. وعندما تدخل أزقة الباب الشرقي المظلمة تذكّرْ أنك ستجدد لباس الروح الخفي وإنعاشها بما يلائمها قبل لباس الجسد، بالرغم من أنك تلبس لباسا أهمله غيرك، أو ربما مات صاحب القمصلة من رعاة البقر في الطريق إلى الجبل أو في حرب عصابات الاتجار بالهيرويين ثم وصلت إليك برائحة الغبار والخيل والبارود.

هويته لا تعنيك مطلقا فأنت تجدّد القطعة القماشية/ الجلدية بغسلها وكيّها وتعطيرها لتنتعش أنت وروحك معا ولا تتماهى مع مالكها الأول أو الثاني. سيمحى أثر الجسد الأول حتما مع رش العطور وهوية الجسد المستتر في لباس البالة لا يوجد في عالم اليوم من يميزه عن الجديد الصيني.

كل التخيلات الأولى واردة حين تكتسي اول قطعة ملابس من سوق المستعمل لم يعد لها أثرا يذكر في مالكها الغائب. زيارة سوق المستعمل طقس ينتعش في اول تبدلات الطقس والمناخ، إنها عادة إدمان على زيارة سوق البالة والتشبّع برائحة النفتالين ليس إلاّ. تجعل الزبون مدمنا على انتقاء ما هو من رأس الشوال ومن كسر أول البالة. حتى ريافة الخرم الصغير تُعد لازمة ضرورية، فالجيب المثقوب هو من يحتاج المعالجة لدى خياط السوق الذي ينتظرك في أول انعطاف على باب الرواق المظلم.

تأمل يا عزيزي هذه القطع الملقاة في عربة لا يبان منها سوى الألوان والأجساد المنزوعة منها قسرا. في عالم اليوم لا قيمة للجسد من غير لباسه، بل لا قيمة تذكر من غير طيف الألوان المتنافرة التي تعطي علاماتها بتشويش بائن. فهي أجساد لرجال يتبضعون في سوق البالة وفق متطلبات وضغط الشارع. فهي أجساد منزوعة الصلاحية لكنها في عالم لا منتمٍ من دون هوية اختيار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

دي خيا يثير الغموض حول مستقبله

محكمة مصرية تلزم تامر حسني بغرامة مالية بتهمة "سرقة أغنية"

والدة مبابي تتوعد بمقاضاة باريس سان جيرمان

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram