اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في اشتغالات العنوان الشعري

في اشتغالات العنوان الشعري

نشر في: 10 ديسمبر, 2023: 10:11 م

د. كريم شغيدل

على الرغم من سكونية نمط العطف، إلا أن إسناد الصفة للموصوف بعلاقات متباعدة يحقق انزياحات لا تقل تأثيراً عن سواها،

وهو من الأنماط الشائعة سواء في عنوانات المجموعات الشعرية أم في عنوانات القصائد، فللشاعرة سنية صالح عدد من القصائد في مجموعتها(ذكر الورد) مثل: (الذاكرة الأخيرة، العاشق الوبال، البحيرات المدانة، قمر رطب، البحر الورع، الغابات الوردية، أفكار صامتة) ونرى أن جميع هذه الصفات أسندت بطريقة كنائية، فالذاكرة الأخيرة كناية عن الزوال والعاشق الوبال كناية عن اليأس أو الخيانة، وهكذا تصنع الشاعرة ما يوقد دهشة القارئ ويستفز في ذهنه علاقات السياق اللغوي المتداول في الاستعمال اليومي، إذ لا أحد يدين البحيرات برمزيتها الجمالية، ولا أحد يتصور قمراً رطباً، ولا توجد على أرض الواقع غابات وردية إلا إذا كانت كناية عن أحلام النوم أو اليقظة، ولا توجد في الواقع أفكار ناطقة وأخرى صامتة إلا من باب المجاز، فالأفكار لا تختار كينونتها بذاتها، إنما هناك أفكار يصرح بها وأخرى تقمع، والفعلان مرتبطان بإرادة الذات الحاملة للأفكار، لكن العبارة هنا تعبر عن فكرة القمع، وهذا الاشتغال هو محاولة لإيجاد علاقات إسنادية خارج المألوف اللغوي، وهذه هي الوظيفة اللغوية الأساسية للشعر، لتحقيق آلية الانزياح وكسر أفق التوقع، وإذا قلنا إن القصائد لا تخرج في بنائها وتركيبات جملها عن هذه الآليات، فسنضع أنفسنا أمام سؤال مزدوج(فني- دلالي) هو: لماذا يقع اختيار الشاعر على هذه الجملة دون غيرها؟ بل إن بعض العنوانات هي جمل مستقلة غير واردة في النصوص، كما في قصيدة(أفكار صامتة) إنما يتحول العنوان هنا بمثابة إعلان عن(بضاعة) إن صح التوصيف؛ هي مجموعة أفكار مسكوت عنها، في حين نجد أن (الذاكرة الأخيرة، والعاشق الوبال) جملتان مقتطعتان من النص، والبعد الإشهاري فيهما مختلف، فالأول ينزع لبعض الصيغ التجارية في الإعلان، كأن يتم الإعلان عن سلعة استهلاكية بكون الكمية قد نفدت، ولم يتبق منها سوى الكمية الأخيرة، ذلك أن صفتي الأول والأخير تثيران الفضول، وكأن الشاعرة توظف شفرة إشهارية مضمرة، من خلال صياغة العنوانات، إذ “ إن الشفرة هي مجموعة القواعد التي يُفصح عنها النسق(اللساني والحركي والتفاعلي والاجتماعي)” كما يقول إيف وينكين، وكأن الشاعرة أرادت أن تشيِّئ سلعة معنوية، إذ لا دليل على وجود جزء يمكن أن نطلق عليه ذاكرة في مخ الإنسان، ربما تشير الدراسات العلمية إلى(فص) في الدماغ مسؤول عن التذكر أو الذاكرة، وكلمة ذاكرة بوصفها علامة لغوية تحيل إلى التاريخ والموروث والوعي والعقل والمعرفة والتواصل الاجتماعي والوجود والماضي والكينونة والذات ووصفها بالأخيرة يعني زوالاً وجودياً تاماً، يستحضر عبارة(العشاء الأخير) التي ارتبطت بمصير السيد المسيح(ع) “ فالعلامة لا يمكن أن تقف عند إحالة واحدة. فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل من إيقافها أمراً مستحيلاً” كما يقول سعيد بنكراد. أما العنوان الآخر(العاشق الوبال) فكلمة العاشق تحيل إلى كل المحمولات العاطفية للعلاقة بين الجنسين، ووصفه بصفة تدميرية أو انتقامية أو مرضية(الوبال) تضمر نسقاً مضاداً لنسق الذكورة الذي كثيراً ما تضمره كتابات الرجال، وقد بني هذا العنوان على تضاد دلالي، فالعاشق علامة دالة على المشاعر الإنسانية النقية والطهرية والعاطفة المتماهية مع المعشوق والمتوحدة مع ذات الآخر، وينطوي على إحالة صوفية تستحضر العشق الإلهي، أو العشق الإفلاطوني المطلق، ومع كل هذه الإحالات يوصف بـ(الوبال)، وهذه مفارقة دلالية تخرج أو تزيح دلالة العلامة(العاشق) مما تم التواضع عليه في الاستعمال أو التداول اليومي، لتحقق مستوى من الشعرية، وهذا التضاد جاء استفزازياً بالنسبة للمتلقي، وربما كلمة(عاشق وحدها) تحيلنا إلى مفهوم (الفتش) أي تقديم السلعة الاستهلاكية في الإشهار مقرونة بإغراء جسدي أو عاطفي يثير الغريزة، وهو ما انتقده الماركسيون على غرار انتقاد ماركس للبرجوازية، وقد تعطي كلمة (وبال) معنىً عكسياً حين يستحضر المتلقي المعنى اليومي للوبال بمثابة القوة، فتُرسّخ في ذهنه ابتداء مفهوم(القوة الذكورية) لكن إذا رجعنا لمتن النص فسنجد شيئاَ مختلفاً، إذ يحيلنا إلى مفهوم النسوية وقضايا الجندر أو الجنوسة، إذ يشير إلى مدلولي الطغيان الذكوري وهزائم الأنوثة بتنويعات تعبيرية مختلفة، وكل هذه التأويلات التي يمكن أن نسترسل بها توفر لجملة العنوان بعداً إشهارياً، بل إن مفهوم الفتش يتجلى أكثر في عنوان المجموعة(ذكر الورد) المقتطع من مقطع في قصيدة(أفكار صامتة) تقول فيه: “ وذكر الورد الذي أهان أنثاه” ولا أدعي هنا بأن الشاعرة قد خططت لذلك أو تعمدت التماهي مع مفهوم(الفتش) بقصدية، بل إن المداليل النصية تذهب لعكس ما يوحي به العنوان، على أن هناك عدداً من العنوانات لا تخلو من إيحاءات جنسية لا مجال للخوض فيها.

وللشاعرة العراقية المغتربة دنيا ميخائيل مجموعة بعنوان(الليالي العراقية) وهذه التركيبة الوصفية ذات مرجعية ثقافية تاريخية، تحيل المتلقي إلى ليالي ألف ليلة وليلة، كما تحيل إلى ليل بغداد الذي عرف عبر التاريخ بالأنس والطرب، وهو عنوان أول قصيدة في المجموعة، لكن إذا رجعنا لمتن النص، فسنجد مدلولاً مختلفاً، له علاقة بالواقع اليومي لليل العراق الذي طمسته وقائع العنف، موظفة فيه التاريخ والأسطورة والموروث الشعبي لتستظهر واقعة(خطف امرأة) فالقصدية الإشهارية متوفرة سلفاً، ما لم نقل إن عنواناً كهذا يتوفر على بعد إشهاري يحفز الذاكرة الجمعية سواء بقصد الشاعر أم بدونه، وللشاعرة أيضاً عنوانات بهذا النمط مثل: (حياة ثانية، بريدك الإلكتروني، قمر منسي، تاريخ شخصي، صخرة ملساء، مخطط انسيابي، كوكب آخر، الببغاء المباع) وجميعها تنطوي على أبعاد إشهارية وإن جاء بعضها متسقاً مع الاستعمال اليومي كبريدك الإلكتروني وتاريخ شخصي، لكنهما يمتلكان طاقة الجذب، ويثيران فضول المتلقي، وكلاهما ينتمي لمرجعية ثقافية، كلاهما يحفر في ما هو شخصي، أو عائدية ذاتية، والشخصي بما ينطوي عليه من أسرار محتملة عادة ما يكون مثيراً يستفز أو يحفز المتلقي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram