ستار كاووش
في كل متحف جديد أحاول أن أن أعيش التجربة الجمالية بكل تفاصيلها، إن أدخل في تفاصيل وأسرار الأعمال الفنية، أجرب التماهي بين الأروقة المليئة باللوحات، حتى أشعر كإني قطعة سكر تذوب في قدح شاي، فأصبح في النهاية جزء من هذه الأماكن التي تزهر فيها اللوحات كما يتفتح الورد في الحدائق. مازلتُ أتنقل بين قاعات متحف كنستهاله بمدينة هامبورغ،
حيث توقفتُ وسط احدي القاعات الواسعة ونظرت الى السقف الزجاجي الذي يسمح بدخول الضوء الطبيعي لداخل المتحف، وقد إشتهرتْ فكرة هذه السقوف بالمتاحف خلال القرن التاسع عشر، حيث لم يُفضل وقتها إستعمال المصابيح أو الشموع الغازية، لأجل حماية الأعمال الفنية من تأثيرات ذلك، لذا لجأت المتاحف للسقوف الزجاجية والنوافذ الكبيرة لغرض ادخال الضوء الطبيعي. مع ذلك فإن هذا الحل الجمالي والعملي قد أصابته بعض المشاكل مع مرور الزمن، بسبب الأمطار والظروف المناخية المختلفة، فصار لزاماً أيضاً أن تعمل المتاحف على ايجاد حلول ومعالجات تتزامن مع التطور التكنلوجي والاضاءة الحديثة. وهذا ما فعلته بلدية هامبورغ مع هذا المتحف، حيث مضى المختصون بخطوات التجديد التي مازالت قائمة وستستمر لسنوات قادمة دون توقف. حتى اللون الأبيض للجدران قد تغيره الى لون رمادي مريح للنظر، تتخلله أحياناً بعض درجات الأزرق والارجواني الفاتح، حيث يتلائم كل جدار مع نوعية اللوحات المعروضة.
كان همي الكبير هو الوصول الى مجموعة من اللوحات التعبيرية، لكن قبل ذلك بقليل إستوقفتني لوحة (مدام هارلوت) التي رسمها رينوار في أوج عظمته الانطباعية سنة ١٨٨٢، وفي هذه اللوحة قد بدا ثوب المرأة المزخرف كإنه إستعادة لتلك النقوشات التي كان رينوار يرسمها في صباه حين كان يتدرب في إحدى ورشات صنع البورسلين، وقد جعلت منه تلك الممارسات المبكرة ملوناً له مكانة عظيمة بين الانطباعيين. في هذه اللوحة ذات التكوين المتماسك والمؤثر، نَقَلَ رينوار الإنطباعية من رسم المناظر الطبيعية الى فن المتاحف، حيث كان يريد أن يبقى فنه الى الأبد. أترك الملون العظيم وانتقل الى القاعة التعبيرية المزدحمة بأعظم ما قدمه الرسم بداية القرن العشرين أقف أمام واحدة من لوحات كاندينسكي التي تعتبر إحدى محطات انتقاله من التعبيرية الى التجريد، حيث إختزل الشخصيات الى بقع ملونة ولم يبقَ من البيوت سوى لطخات فرشاة عريضة، فيما صارت الأشجار خطوط بسيطة دون تفاصيل، هنا يقول اللون حكايته وتتحول التدرجات الى نوع من الموسيقى. وبجانب كاندينسكي ظهرت لوحة أميل نولده التي رسم فيها رجل وامرأة في احدى مقاهي برلين، ورغم إن الصمت هنا يُخيم على المشهد، لكن اللون هو الذي يقول الكثير، حيث استعمل نولده الألون هنا بشكل مباشر دون خطوط خارجية، كغالبية لوحاته التي لا نرى فيها خطوطاً تحدد الاشكال، فاللون عنده هو سيد اللوحة. على الجدار المقابل، عُلقت لوحة كريخنر الشهيرة التي رسم فيها نفسه مع موديل. تجلس المرأة في عمق اللوحة فيما يقف الرسام أمام حامل الرسم ممسكاً بفرشاته العريضة ومرتدياً معطفاً طويلاً مخطط بالبرتقالي والأزرق، كإشارة رمزية وتهكمية للزي العسري عند صعود المد النازي. وقريباً من هذه اللوحة عُلقت واحدة من أعمال التعبيري العظيم ماكس بيكمان، والتي يظهر فيها رجل وامرأة في لحظة حميمية، وعلى جانبيهما قطة وببغاء، حيث رسم المشهد بخطوط سميكة داكنة تعيدنا الى فن الحفر الألماني. في هذه اللوحة تتجسد قوة التعبيرية الألمانية وعظمة وتأثير أعمال بيكمان.
قبل مغادرة هذه الصالة، إنبثقت أمامي لوحة كإنها الشمس، إنها جوهرة الرسم التعبيري، بل هي الباب الذي أدى الى التعبيرية، انها لوحة (فتيات على الجسر) للفنان ادوارد مونخ. تأملت هذه اللوحة وتقنيتها فعرفت مباشرة بأنه قد رسمها دفعة واحدة وخلال وقت قصير، هكذا وضع ألوانه مباشرة وبسرعة كي لا يُضَيِّع التعبير ولا يفقد حساسية المشهد، وقد وصل مونخ هنا الى أقصى درجات الاختزال سواء بالمساحات أو الألوان، ولو حذفنا بعض التفاصيل الصغيرة من اللوحة لصارت تجريدة تماماً. هنا تقف ثلاث فتيات صغيرات على الجسر، إثنتان تنظران الى البعيد وقد رسمهما الفنان من الخلف، فيما الثالثة تلتفت نحونا، أو تنظر الى جهة الرسام، ممسكة بقبعتها الصفراء التي تتدلى من يدها وتجعل التكوين مذهلاً. المناخ العام هنا موحش كغالبية أعمال مونش، بل يثير الكآبة، وتموجات الألوان في عمق اللوحة تمنح قوة وتوازن لهذا العمل. الجسر يمتد نحو البعيد، فيما الفتيات بـثيابهن الملونة بالأخضر والأحمر والأبيض تحولن الى علم يرفرف فوق الجسر. شكرتُ أصدقائي التعبيريين، وأنهيت جولتي في المتحف وسط هذه الروائع والكنوز التي منحتني رغبة كبيرة في العودة الى مرسمي للشروع برسم مجموعة من اللوحات الجديدة.