TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عمودقوس عدد(2617)

عمودقوس عدد(2617)

نشر في: 9 أكتوبر, 2012: 07:33 م

الميكامبوت

في عدد (17 شباط 2012) من مجلة ناشيونال جيوغرافك. نُشر تحقيق انثروبولوجي رائع، يتحدث عن شعب الميكامبوت، وهو شعب من الرحَّل يسكن كهوفاً نائية وسط الأدغال في بابوغينيا الجديدة، ويتنقلون بين مجموعة منها على مدار السنة. ما لفت نظري في هذا التحقيق هو قصَّة الخلق بحسب رواية هذا الشعب، فهذه القصَّة رواها زعيم جماعة الميكامبوت، جون آيو، لكاتب التحقيق، مارك جينكينز، بعد أن أخذه إلى الكهف المقدس عندهم، ووقف بخشوع تحت صدعٍ في سقف هذا الكهف وسرد الأحداث التالية:
«في البداية نزل آبي، روح الأرض، إلى هذا المكان ووجد الأنهار مليئة بالأسماك والغابة مليئة بالخنازير، والكثير من أشجار الساغوا السامقة، لكنه لم يجد البشر. حينها قال آبي: هذا سيكون مكاناً مناسباً ليعيش فيه البشر، ثم شق هذا الصدع في قلب الكهف. وأول البشر الذين تسللوا إلى الداخل من خلال الصدع كانوا الآويم، تلاهم الإمبوين، ثم جماعات أخرى، ثم الميكامبوت في النهاية. وقد كانوا كلهم عراة، وبالكاد استطاعوا اختراق الصدع. وقد كان هناك بشر آخرون في الداخل، لكن بمجرد خروج الميكامبوت، أغلق آبي الصدع، وبقي الآخرون عالقين في الظلام».
هذه الرواية تكشف عن الخيال (الطفولي) الذي لم يزل يطبع الكثير من التفكير البشري، لأنها تتميز بأهم مميّزات أساطير الخلق لمختلف الشعوب، فمكان مبدعي الاسطورة يكون دائماً المكان الملائم الذي يجب أن تتم فيه عملية خلق البشر، أو نزولهم، أما رواة الأسطورة فهم دائما الشعب المختار، الذي تدور أحداث الخلق كلها مدار وجوده، ولذلك نجد أن أسطورة الخلق هذه تجعل الكون كله مسخرا، بل وحتى الآلهة، من أجل الميكامبوت.. ألم تنزل الآلهة إلى مكانهم، لتختاره من بين كل الأمكنة محلاً لنزول البشر؟ ألم تختر صدع كهفهم، حيث عاش الأسلاف، ليكون الرحم الواصل بين السماء والأرض، الرحم الذي يُغلَق بابه بمجرد نزول الميكامبوت، إذ الآلهة معنية بنزولهم وحدهم، ولا يعنيها من يبقى خلفهم حبيساً في الظلام.
هكذا تنشأ الأديان ويتم فرض العقائد، دائماً مكان خالقي الأسطورة، هو الأقدس من بين الأمكنة، ودائماً هو مكان بيت الرب أو محل نزوله، وشعبهم الأخْيَر من بين الشعوب، ودائماً يصطفيه الرب ليكون محل رعايته، ولغتهم الأبلغ من بين اللغات ودائماً يتكلم بها الرب ويختارها لغة للحياة وما بعدها؟
تساءل فرويد مرة: هل من المصادفة أن تتكرر القصة ذاتها، التي يكون فيها النبي أو المخلص بدون أب، ويسعى الملك إلى قتله، فتضطر أمه إلى تركه في مكان ما، لترعاه الآلهة، لماذا تكررت الأحداث ذاتها مع إبراهيم ومع موسى، ومع سرجون الأكدي، الذي يروي أسطورته قائلاً: «أنا سرجون الملك القوي... كانت أمي من عذارى الهيكل. لم أعرف أبي، [....] وفي مدينة آزو بيراني، على ضفاف الفرات، حبلت أمي بي. ولدتني سراً، ووضعتني في سلة من الأسل وسدت فتحاتها بالجلبان وتركتني للتيار حيث لم أغرق. وحملني التيار حتى آكي، غراف الماء.. وانتشلني آكي، غراف الماء، الطيب القلب، ورباني آكي [...] وكأنني ابنه». إذن فحتى سرجون انتشلته الآلهة من سلة تائهة وسط الماء، وحتى الميكامبوت لديهم كهفهم القبلة، وشعبهم المنتخب، وحتى نحن ما زلنا بوعينا الطفولي نجرجر خلفنا مئات الأساطير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: هلاوس الناطق السابق!!

العمودالثامن: البرلمان يعلن الحرب على النساء

المقاييس العربية وأهميتها في مواجهة التحيز اللغوي في مؤشرات التأثير الأكاديمي العالمية

العمودالثامن: لا يقرأن ما تكتبه

قناديل: طرابيشي: لن تكفينا محطّاتُك الست

العمودالثامن: "بعبع" المساءلة والعدالة

 علي حسين قبل اعوام وبالتحديد في الثالث عشر من ايلول عام 2017 قررت المحكمة الاتحادية العراقية ، الغاء القرار المرقم 120 لسنة 1994 ، ماذا كان ينص هذا القرار الذي وجدت المحكمة انه...
علي حسين

قناطر: ليل البصرة الطويل

طالب عبد العزيز الليل صناعة بصريّة بامتياز: هكذا، قلتُ لنديمي، وأنا أچقُّ كأسي بكأسه، فضحك وضحكت معه، وصرنا نشربها صرفاً، داخل سيارته، مغلقة النوافذ، حيث يعلو صوت الاغنية فيها، في تحدٍ صريح، لمن ظلَّ...
طالب عبد العزيز

حول البطالة المستدامة في الديمقراطية الريعية

ثامر الهيمص اذا تحدثت له عن تجربة مفيدة في ايران مثل الخدمة المصرفية الواسعة،, ونظام البطاقة الصحية، وخدمات البلدية في نظافة المدن، او اي شئ اخر، فأنه يسارع لقلب الامر لنقاش ( فلسفي) وهو...
ثامر الهيمص

الصحة النفسية..أوسع من عيادات الأطباء.. مقترحات إلى البرلمان العراقي

د. قاسم حسين صالح أعلنت لجنة الصحة والبيئة النيابية في (26 /10 /2024) عن تحركها لتشريع قانون الصحة النفسية وزيادة التخصصات الطبية، فيما أشارت الى أن الفحص المبكر لمدمني المخدرات سيشمل طلاب الجامعات والمتزوجين....
د.قاسم حسين صالح
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram