طالب عبد العزيز
قلت: . . وسواءٌ أعلنت البلادُ عن فرحها بالانتخابات أو نكّست اعلامها بنتائجها فهي عندي سواء أيضاً، فما كنت معنياً بمن فاز في الدورات السابقة، ولست معنياً اليوم بمن سيفوز، أنا مع من يجتهد ويبني ولا يخون، ويأخذ بالحيف والشقاء عن أولادي، أما الوطن الذي أنهكني الامل بصيرورة جديدة له، فلم يعد يعنيني بشيء، ذلك لأنَّ الذين يصطرعون على الفوز بمقاعد مجالسه لا يعنيهم من امره إلا ما يسترجعون مما أنفقوا من مالهم في حملاتهم الانتخابية. وديمقراطية يحشِّد المرشحُ القويُّ، ذو المال الحرام فيها أبناءَ عشيرته لا خير فيها.
وأقول: إذا كانت أمريكا قد أهدتنا هذا الصنف من الديمقراطيات فوالله لقد كانت الدكتاتوريات أشفق وأرحم بنا، ثم من قال بسوء مطلق في انظمة الحكم الملكية والدكتاتورية وشيوخ القبائل وسواهم فهو واهم أو متحزب لأمريكا! فديمقراطيتنا التي ضاعفت اللصوص وأطلقت القتلة ومزقت البلاد فعلت بنا ما لم تفعله الدكتاتورية، فما كنا نعرف الخيانة وبيع الاوطان وقتل المخالف لا في حكم القبائل ولا الملوك والا الجمهوريات. نحن في بلاد نصف المرشحين لعضوية مجالس المحافظات فيها يعملون لمصالح خارجية، ويأتمرون باسياد لهم هناك، ويتقاضون رواتب من نفط البصرة لكنهم يكرهونها، حتى أنهم يودعون أموالهم في مصارف خارج الحدود، ومع أنهم يجتمعون على ارضها إلا أنهم يخططون لمصلحة أرض وبلاد أخرى.
تنتفي فكرة الوطن حين يعيش المرؤ فيه بغربته، وتنتهي معاني الوطنية عندما لا تشعر بالامان، بين أهلك وذويك، ويتعاظم شعورك بالاهانة حين تجدُ القانون ينصف القاتل لصالح المقتول، والمسروق لصالح السارق، والشريف لصالح الوضيع، وتتراجع قيم الانسانية عند رجل الدين وشيخ القبيلة وزعيم الحزب وسواهم. ما يؤذيني حقاً ليس نتائج الانتخابات، ابداً، فهي محسومة منذ عشرين سنة، لكنني، أبحث عمن يحمي روحي من صوت مؤذن المسجد القبيح، هذا الذي يتقيأ حنجرته خمس مرات في اليوم، هذا الذي جعل من حياتي نكدا، أنا المسكون بصوت فيروز، المحمول على مفاتيح بيانو موتزارت، المأخوذ من أنياط قلبه الى كل ما هو ملون وساكن ومتوقف.
كان زوربا يقول للرئيس: "ليحفظك الله من مؤخرات البغال ومقدمات الرهبان". أما نحن الذين لم نجد وطناً بالمعنى الذي نأمله، فلسان حالنا يقول: لن يحفظنا أحدٌ. يتضاءل إحساسك بالوطن حين تجتمع الأضداد ليتفننوا في حرمانك منه، ويصبح عبءًا كلما تراكمت السنوات فيه عليك، فلا أنت قادر على البقاء فيه ولا الخروج منه، ويسوء وجودك فيه حين لا تجد من يحدثك عن معنى الوجود هذا.
في المدرسة الابتدائية كان معلم الرسم يطلب منا ان نرسم بيتاً في القرية، وما البيت فيها إلا الجذوع والسعف والقصب والارض الخضراء، القريبة من النهر التي تظللها النخلة وترعى فيها بقرة، ويتأرجح في نهرها قارب أزرق. البيت الصغير المرسوم على الورق كان أحبَّ البيوت لنا، ثم صار أحبَّ الاوطان، حتى أنَّ بعضنا ما زال محتفظاً بدفتره ذاك الى اليوم. هو بيتنا إذن(وطننا) الحبيب الذي يسكنه الاب والأم والاشقاء، وفيه ما فيه من المباهج والآمال، من الدمى والصدق والاحزان. أعجبُ كيف يكون بمقدور هؤلاء التخلي عن وطن كبير فيه آلاف الأنهار والابقار والزوارق الملونة، ويسكنه الملايين من الناس الحلوين وتقوم على أرضه أجمل غابة للنخل؟