اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: ثورة التسعين

مرساة: ثورة التسعين

نشر في: 19 ديسمبر, 2023: 09:36 م

 حيدر المحسن

بين ليلة وصبيحة يوم، تهاوت حكومة البعث وتبخّرت السلطة الحاكمة، وكانت الأقوى والأشرس في الشرق والغرب. الحكومة التي ترفع أسفل الناس، وتهبط من عزيمة أعلاهم مرتبة، تشبه رجلا يتشقلب ويرفع عجيزته، ثم يقوم بالسير على يديه وقدميه. إن غايته إضحاك الجمهور وليس تأدية واجبه في المجتمع. أو أنها تشبه هرما واقفا على رأسه، وأتته هبّةَ ريح...

سقطت حكومة الباطل في ذلك اليوم بفجاءة عطسة عنز. ثم جلسنا، نحن الثوار، كي نرتاح، بعد أن نفضنا أيدينا من آخر ذرة غبار أسود. كان هناك من يصيح في الشارع مبتهجا بالحريّة، ويجيبه آخر من الجانب الثاني من المدينة، ويعبر الهتاف على موج النهر، ليشارك هذا الهادر الناسَ فرحتها. التراب اختلف في ذلك اليوم، ولون الغيم صار يعبّر عن سعادة الجميع، بل إني سمعتُ في ساعة أحدنا يغنّي - من سعدي يوسف -

"هل كانت الأرضُ نصفين | أم أنها البرتقالةْ؟"

وقال أحدنا: "لا تتصوّروا أننا وحدنا من أنجز الثورة، الطّيرُ معنا، والأسماك، والنخل، حتى أدقّ عشبة في هذه الأرض كانت معنا، لأن أذى وقسوة وظلم صدام وربعه تحمّله معنا الطائر والسمكة والشجرة، والعشب... خفقت راياتنا عالية في ذلك اليوم، وكنّا نحمل آمالنا وأحلامنا مثل أواني البيت، ونراها مليئة بالزاد، ثم سمعنا من يأمرنا بأن نرميها على أرض الشارع. لم نرَ أحدا وراءنا ولا أمامنا حين جاء المعارضون من جهة الشرق، واحترقت مؤسسات الدولة والمكتبات، ورجع الهتاف إلى الحناجر، وعمّت السرقات، ولا نعلم حتى اللحظة من قام بهذه الأفعال، فالمعارضون الشرقيّون يتهمون البعثيّين ورجال الأمن، ويقول هؤلاء إنّها من أفعال الثوّار، وقيل أيضا إن الحكومة الكويتيّة اشترت عصابات قامت بهذا الخراب انتقاما، وكان أن صار اسم تلك الأيام "الانتفاضة الشعبانية" لأنها جرت في شهر شعبان، لكني أدعوها ب"ثورة التسعين"، وقد دامت أسبوعا واحدا لا غير، لكنه مفصلٌ مهمّ في تاريخ العراق، ويحتاج إلى دراسة وافية.

السماء اليوم أوسع من عادتها فوق المدينة، وربما حتى الهواء وحتى الشمس وظلام الليل. سبعةُ أيام دام فرحنا، ثم جاءتنا الأخبار في اليوم الثامن أن الطائرات ألقت منشورات تهدّد، في حالة عدم استسلام الثوّار في داخل المدينة، باستعمال السلاح الكيمياوي، وفي ذلك الوقت كانت قصّة مدينة حلبجة قريبة، ويعلم بها الجميع. فرّ ناس مدينتي إلى البساتين العراء والأرض العراء والصحارى الغارقة في عرائها، حيث ينتظرهم المصير المجهول، وهنا لعب الحظّ والقدر معنا لعبا مكشوفا تحت أنظار السماء، وانقسمنا بين من استقبلته قوّات الحرس الجمهوري القادمة من جهة الشمال، وقتلتنا وتمّ دفننا في مقابر جماعيّة، ومن فرّ إلى جهة الشرق والجنوب صار لاجئا في المملكة السعوديّة، أو أنه حلّ ضيفا ثقيلا على أرض الدولة الجارة. هجم الجيش أخيرا على المدن الثائرة، مدينة مدينة وحارة حارة وزقاقا زقاقا ودربونة دربونة وبيتا بيتا - باختصار شديد، كلّ من عثرت عليه قوات الحرس الجمهوري حيّا، قتلته بالرشّاش الكلاشنكوف وظهره إلى الحائط، أو ربما كان ظهره إلى السماء، مقيّدَ اليدين، أو إلى الأرض. وأُلقيت جثث الجميع في نهر دجلة الهادر في مثل هذا الوقت من السنة- وهو الربيع! أيّ قدر كُتِبَ على مدينة يقوم جيشها بالاعتداء عليها بواسطة المدفعيّة والطائرات؟ هل بتنا نترحّم على العثمانيّين وقرونهم الأربعة المظلمة؟ وهل كان "هولاكو" أكثر رأفة بنا من إخواننا؟ ربما كانت قصّة النّهر الذي صار أحمرَ بالدّماء، كابوسا رآه أحد رواة التاريخ سوف يتحقّق ويصير واقعا في زماننا.

يحقّ لنا القول إن ما يجري الآن في غزّة التي تدوسها الدبّابات وتدكّها المدفعيّة والطائرات الإسرائيليّة، كانت له نسخة أخرى مطابقة طبعها البعثيّون على مدننا في زمن ثورة التسعين، وهنالك فارق واحد، فقد تمّت هنا تحت الأرض، ورقدنا جميعا في مقابر جماعيّة بلغ عددها 365 مقبرة، أي بعدد أيام السنة، بينما يُقتل اليوم إخوتنا في مدينة غزّة المنكوبة فوق سطح الأرض.

فوق الأرض وتحت الأرض؛ السبيل مختلفةٌ والمصير واحد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram