طالب عبد العزيز
ضمن قاعات مبنى البرلمان الايطالي هناك قاعة باسم (قاعة الخطى الفارغة) وظيفتها قتل الوقت بالمشي والحديث مع النفس، يدخلها الاعضاء، الذين لم تحظ مقترحاتهم بالتصويت،أو فشلوا في تمرير ما أرادوا التصويت عليه واخفقوا، في فعل من أفعال التنفيس، يتحدثون فيها عن اهمية مشاريعهم، ويلومون انفسهم أوالاعضاء الذين لم يصوتوا لصالحهم، لكن بعد فوات الاوان، والتسمية واضحة تشير الى أنَّ الخطى هذه فارغة، وستظل لأنها غير مجدية.
تذكرتُ هذه وأنا استمع لبعض تبريرات المرشحين الذين خسروا في انتخابات مجالس المحافظات، فهم يلومون انفسهم مرةً، وأخرى يلعنون القوائم التي دخلوا فيها، وثالثة الجهمور الذي خذلهم.. وهكذا، لكن ذلك كله بلافائدة، فقد خرجوا من مضمار التنافس، وخسروا الجاه والمال واضاعوا الفرص، مع أنَّ بعضهم مازال يكابر، وبروح رياضية، قائلا هذه هي لعبة السياسة، وعلينا تقبل النتائج مهما كانت، إلا أننا، وبحكم وجودنا خارج اللعبة هذه، نستطيع أن ندلي بدلونا في البحيرة العميقة، مختلفةِ الاشكال والالوان والموجودات، ونستخلص من مائها ما يستساغ شربه، والانتفاع منه.
في البصرة، حيث فازت قائمة تصميم، برئاسة المحافظ اسعدي العيداني، بغالبية الاصوات، وبما يمكِّنها من انتزاع منصب المحافظ، وربما رئيس المجلس، تتضح أيضاً الخسارة الكبيرة التي منيت بها قوائم أخر، يتوجب علينا السؤال التقليدي جداً، والذي يقول: لماذا خسرت القوى المدنية، والتشرينية أو الشيوعية، والسنية، والمستقلة وغيرها؟ ولماذا ذهبت جماهير المدينة بمختلف توجهاتها لأنتخاب العيداني، بعيداً عن الايديولوجيا والمذهب والعشيرة.. ولا نملك إلا إجابة واحدة مفادها أنَّ قائمته(تصميم) لم تعلن عن توجه ديني، أو طائفي، أو سياسي، أو قبلي، إنما حظيت بالفوز لأنها قائمة رجل قدم وعمل وانجز، وباختصار: لم يكن العيداني اسماً يحظى بهذا الدعم والالتفاف خارج عمله، في اصلاح بنية المدينة، وجملة المشاريع والخدمات التي قام بها.إذن من يعمل يفز.
نحن، إذن أمام قضية جديدة، اتضحت معالمها في البصرة وكربلاء وواسط وصلاح الدين والموصل، فالناس تقف مع من يعمل، وينجز المشاريع، وينتشل السكان من واقع مرير الى آخر افضل منه، في اقل القليل، وهي غير معنية بعشيرته ودينه وطائفته. وهكذا خسر الذين تعكزوا على أوهامهم، بل وخذلهم اقرب الناس لهم، إذ، ما معنى أن انتخب شخصاً لم يتحقق عندي فوزه، ولم يدخل مختبر العمل والانجاز. ما قام به العيداني ظهر على ارض الواقع، وصار معايناً ومنتفعاً به، وتلمست الناس خيره، أما أنت الذي بقيت توعد وتتوعد، فقد مُنحت الفرص والفرص من قبل، لكنَّ صورتك اتضحت، إما عاجزاً، أو فاسداً، أو قاتلاً، أو طائفياً، أو عشائرياً، فنبذتك الناس، وبذلك طويت صفحتك الى الاخير.
واحدة مما افرزته انتخابات المجالس الاخيرة هي أنها اسقطت فكرة الحزب، بأيِّ اشكاله، مثلما اسقطت فكرة الطائفة والعشيرة. وعلى ضوء ذلك يتحدث الذين راقبوا مجريات النتائج، عن تقصير في رؤيا بعض الخاسرين، والذين تكررت خساراتهم من قبل، بأن يعدلوا عن تصوراتهم التقليدية تجاه جمهورهم، فليس كل متحزبٍ سينتخب مرشحه، والعشيرة غير كافية لذلك، والدين والطائفة مقولات لم تعد صالحة. وربما نستطيع رسم خريطة لمجمل عملية الانتخابات في البصرة فنقول: لو أنَّ القوى المدنية المتفرقة أو البصرية التي نادت بمشروع الاقليم والشيوعية والسنية كلها فعلت مثلما فعل أبناء بني عامر(الشيخية) بانضمامها لقائمة تصميم(اسعد العيداني) لجاءت النتائج باهرة جداً،ولوقفنا على صورة جديدة، للمجتمع البصري، صورة تعيد للأذهان حقيقة المدينة، بتاريخها المعروف في المدنية والحضرية، وحاضرها الموعود، بعيداً عن التمذهب والتشدد والعنت.
المؤسف في الامر أنَّ هؤلاء، الذي خسروا كانوا يرون في صورهم إكبر في مرآة المركبة التي اقلتهم، وتعرضوا الى خديعة كبيرة، فقد كان البعض منهم يؤمل نفسه بأن يكون زعيماً، قائداً، غير مبال بما يمكن أن تسفر عنه النتائج. اعتقد أنَّ الدرس المستقى من النتائج الاخيرة يستدعي من هؤلاء مراجعة حساباتهم، وأن يعملوا لصالح المدينة، ليس عبر حملات التحزب والتسقيط إنما ضمن خطط ومشاريع حقيقية، ترى بالعين، ولا ترسم بالخيالات.