ستار كاووش
هل سمعتم بمتحف القهوة؟ نعم هكذا يسميه الألمان عموماً، وخاصة سكان مدينة هامبورغ. انها مكان لشرب القهوة ومتابعة طريقة صنعها والتمتع بإسرخاء رائع بين عطورها المختلفة. هنا تجد نفسك وسط بناء قديم وواسع جداً يحتوي على كل ما تحتاجه من قهوة وكل ما يتعلق بهذا الشراب الداكن الذي سحر الجميع في شرق الأرض وغربها.
المكان عبارة عن محمصة قهوة كبيرة، تحولت الى مقهى واسعة جداً، ثم صارت متحفاً يحتوي على كل ما يتعلق بالقهوة، ويمكنك التجول بين زوايا وانعطافات وأركان هذا المكان، حيث يعمل مجموعة من الأشخاص الذين يشكلون فريقاً متجانساً، وقد تخصص كل منهم بمهمة معينة تجعل المكان مثل خلية نحل، يتنقل فيها محبي القهوة والباحثين مثلي عن أماكن تمنح المدن نوعاً من الخصوصية والتفرد والجمال، وقد حازتْ هذه المحمصة على جوائز عديدة لنوعيتها ومذاقها وطريقة تحميصها الخاصة. بحثت عن هذا المكان حال انعطافي من مركز مدينة هامبورغ، وقبيل وصولي قادتني نحو هدفي رائحة القهوة التي تسربت من البوابة نحو فضاء المدينة. بدا المكان من الخارج مثل بيت قديم، وقد تخللت الواجهة المبنية بالحجر الأحمر، بعض الخطوط والبقع البنية، وكإنها إشارة الى حبوب القهوة الداكنة، فيما انتصبت قرب المدخل طاولة مرتفعة كإنها تمهد الطريق للزائرين للدخول الى هذا المكان، وعلى جانبي المدخل ثُبِّتَتْ يافطتان بلون أسود، فيهما اسم المحمصة (بورغ) والاسم مأخوذ من عائلة بورغ التي أسست المشروع، وقد كُتبت على اليافطتين أوقات الافتتاح، وقد إجتمعت كلمتي مقهى ومتحف معاً للتعبير عن هوية المكان، فيما ارتفع مصباحان كبيران من تلك التي تستعمل في المصانع القديمة، وذلك أعطى المكان شيئاً من القدم، مع شعور الزائر بأنه في مصنع قهوة. وقد تأكد لديَّ هذا الاحساس حين لمحاُ أكياس الكتان الكبيرة التي تُستعمل لتعبئة القهوة، وقد أخذت أماكنها ايضاً أمام واجهة البناية.
ما أن وضعت قدمي داخل المكان الذي تأسس سنة ١٩٢٣ أي قبل مائة سنة بالضبط، حتى رأيتُ ان كل شيء بالداخل مصنوع من الخشب، فإضافة الى الطاولات الخشبية القديمة المنتشرة في طول وعرض المكان، فهناك السقف الذي بدا كإنه قد رصفَ من ألواح خشبية قديمة، كذلك الأعمدة الضخمة التي يستند عليها السقف، والتي منحت المكان نوعاً من القدم الممزوج بالفتنة، وقد ذكرني ذلك ببيوت الفلاحين في هولندا. تجولتُ بين زويا المكان، وتوقفت أمام عامل يدير مكائن كبيرة ويحضر أنواعاً ووصفات متنوعة من القهوة. هو منشغل بوصفاته التي ستجد طريقها نحو الزبائن، فيما أنا متمتع بالروائح التي تداخلت مع بعضها، وقد إقترب بعض الاشخاص منه اكثر من اللازم ليتحسسوا عن قرب، لون القهوة وطريقة تحضيرها. الناس تتابع المشهد، والعامل منشغل بمداعبة حبّات القهوة وسحناتها وعطورها وكإنه يداعب امرأة سمراء جميلة ممشوقة القوام وهائلة العطر. في زاوية أخرى من عالم القهوة، تكدست مجموعة كبيرة من العلب المعدنية التي كانت تستمعل في السابق كعبوات للقهوة، تابعتُ الرسومات المطبوعة فوق هذه العلب وتأملت الكتابات التي تحتفي بالقهوة، ثم أكملتُ طريقي داخل المكان، لتظهر أمامي مكائن قديمة كانت تستعمل لطحن القهوة، وبعد تغير الزمن والتقنيات، أحضروها الى هنا لتكون شاهداً على تغيرات القهوة مع اختلاف الزمن. اعلانات جديدة وقديمة تتعلق بالقهوة ملأت المكان، كذلك ترى هنا الكثير من الأدوات والآلات والمحامص والمطاحن والفلترات وأواني حفظ القهوة وأنواعاً لا تُحصى لفناجين وأكواب القهوة التي تعود لأزمنة مختلفة، ولا يخلو الأمر من أنواع قديمة من الميازين التي انتشرت بين كل هذه التفاصيل. تركتُ الاشخاص المنشغلين في زوايا المكان المختلفة، ومضيتُ نحو مكان بيع القهوة، وطلبتُ فنجان قهوة مع قطعة كبيرة من كعك التفاح، كانت الكعكة كبيرة حقاً، وبدت أكبر من المعتاد، وحين اختياري مكاناً للجلوس، انتبهت الى سيدة مع ابنتها تجلسان على طاولة قريبة وقد توسطتهما كعكة واحدة فقط من النوعية التي طلبتها، وهنا تأكدتُ من إنها كبيرة فعلاً وتكفي لشخصين. أنا في اجازة ولا أفكر بالسعرات ولا بكمية السُكَّر ولا بحجم الكعكة، بل بحجم المتعة في هذا المكان الفريد. ومع رشفات القهوة أجلتُ بصري في أنحاء المكان، متأملاً التفاصيل والسحر الذي يمكن أن تصنعه الاشياء الصغيرة، وعرفت حقاً ان المتعة الحقيقية تكمن في التفاصيل العادية التي يكاد لا ينتبه اليها أحد. بعد ساعة قضيتها بين اركان (متحف القهوة) خرجتُ سائراً بمحاذاة القناة المائية اتمقابلة للمتحف، وعند جسر صغير عبرت نحو الجهة الاخرى، بإتجاه مركز المدينة التي يغفوا على جسدها ألفين وخمسمائة جسر وقنطرة! نعم لقد كتبتُ العدد بشكل صحيح، قد يبدو ان هذا العدد غير منطقياً لمن لا يعرف مدينة هامبورغ، لكن هذا هو الحال فعلاً في هذه المدينة التي تعتبر واحداً من أهم موانيء العالم.