اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > العولمة ومظاهر التفكيك الاخلاقي للمجتمعات

العولمة ومظاهر التفكيك الاخلاقي للمجتمعات

نشر في: 25 ديسمبر, 2023: 09:33 م

د. طلال ناظم الزهيري

لقد أدى ظهور الإنترنت على نطاق عالمي إلى ظهور مفهوم العولمة، وهي نتيجة غير مقصودة لسهولة الاتصال بين الناس، مما يجعل العالم يبدو وكأنه قرية صغيرة. حتى أن أنصار العولمة الأوائل كانوا قد قدموها بشكل إيجابي،

ووصفوها بأنها عملية متعددة الأوجه تتميز بتكامل الاقتصادات والثقافات والتكنولوجيا عبر الحدود الوطنية. وتعزز هذه الظاهرة التحويلية زيادة التفاعلات وتبادل المعلومات والسلع والخدمات عبر مناطق مختلفة على مستوى العالم. وهو يشمل التعاون الاقتصادي العالمي والحوار الثقافي، الذي يتميز بالتقارب السريع بين الثقافات والأسواق العالمية.

في حين أن العولمة غالبا ما ينظر إليها باعتبارها جانبا لا يتجزأ من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعاصرة في العديد من المجتمعات، فإن هذه المناقشة سوف تتعمق على وجه التحديد في التحولات الاجتماعية والثقافية، والتي، على الرغم من أهميتها، لم يتم التركيز عليها في الخطاب الأوسع حول العولمة. وأنا أزعم أن هذه التحولات تمثل أخطر تجلياتها. فعلى مر القرون، كان هناك اتفاقا تاما بين المجتمعات على الاحترام المتبادل لقيم وعادات وتقاليد مختلف الأمم والشعوب. وتفتخر كل دولة بتراثها الثقافي المميز، مما يساهم في تفردها. ومع ذلك، فإن تأثير التحولات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن العولمة يمثل جانبا دقيقا يتطلب دراسة أكثر دقة. لكن هذا الأمر لم يتماش مع أهداف أنصار العولمة، الذين كانوا يهدفون إلى فرض النموذج الثقافي الغربي بعد تطويعه على الدول الأخرى. لقد بدءوا بالتشجيع والتحفيز، ثم أعقب ذلك شكل من أشكال التهديد والوعيد. لكنهم في النهايةادركو أن الوصول إلى مبتغاهم يتطلب أدوات فعالة قادرة على تحقيق الأهداف دون اللجوء إلى القوة، التي كانت أمر مكلف بلا شك. وبرزت هوليوود وإنتاجاتها السينمائية كأدوات حاسمة، حيث قدمت ثقافات ومفاهيم جديدة تصور بشكل سطحي واقع المجتمع الغربي، ولكنها في الواقع كانت بمثابة تكتيكات تسويقية للمجتمعات الأخرى. ومع ذلك، فإن التكلفة العالية لإنتاج الأفلام والتحديات في فرضها على البلدان أو التسويق المجاني جعلتها غير فعالة.

تغير المشهد مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشرت بسرعة وأصبحت في متناول الجميع، متجاوزة الفوارق المالية والتعليمية والعمرية. وقد أدى انتشار الهواتف الذكية وسهولة الوصول إلى الإنترنت إلى زيادة هذا الانتشار. ومن ثم اشتعلت شرارة تفكيك القيم الأخلاقية المجتمعية. تبنت المجتمعات الغربية تدريجيا وبدرجات متباينة التخلي عن القيم الأخلاقية التي كانت السائدة، ضاربة مثالا ليحتذى به. حيث يرى بعض المثقفين أن التفكيك الأخلاقي لأي مجتمع يستغرق من 20 إلى 25 سنة، وهي المدة اللازمة لإعداد الطفل من الرضاعة حتى وصوله إلى مرحلة النضج. والجدير بالذكر أن منسقي ودعاة التفكيك الاخلاقي للمجتمعات ما زالوا مجهولين على مستوى العالم، ومجهولة اهدافهم ايضا، على الرغم مما يمتلكونه من تاثير نتيجة الدعم المباشر من السياسيين والشخصيات المؤثرة في عموم المجتمعات والذين يتم تجنيدهم تبعا لقوة تاثيرهم. بالنسبة لهؤلاء تبدو فكرة انتظار جيل كامل طويلة نسبيا فهم مؤمني ان تآكل الأخلاق المجتمعية داخل الأسرة. ممكن عندما يتم التلاعب بركيزة قديمة من القيم الأسرية، المتجذرة منذ قرون. لقد غيروا بمهارة مبادئ مثل طاعة الأطفال لوالديهم، والتضامن الأسري، والتوجيه. الى مفاهيم تبدو ظاهريا مثالية، ولكنها في جوهرها تسعى إلى إضفاء الشرعية على تمرد الأطفال ضد والديهم بذريعة بناء الشخصية وتحقيق الاستقلالية وحرية التفكير. اما على صعيد القيم الدينية فقد واجه دعاة التفكيك الاخلاقي تعقيدات اكبر بسبب التفاوت الكبير بين الأمم والشعوب على المستوى الديني والعقائدي. لذا وجدوا أن التركيز على المبادئ الأساسية للديانات الثلاث الرئيسية هو كل ما هو مطلوب في هذه المرحلة. ساعدهم في ذلك العديد من الفلاسفة الوجوديين الامر الذي اسهم في انتشار ظاهرة الإلحاد التي كانت نادرة في المجتمعات الغربية ثم أصبحت الآن منتشرة على نطاق واسع، حتى انها امتدت الى المجتمعات الإسلامية مع العلم ان هناك تشريعات قانونية تعاقب على الإلحاد المعلن فيها. وفي سياق متصل، حدث ترويج غير مسبوق للمثلية الجنسية من خلال تجنيد المنظمات والشخصيات النافذة وحتى بعض رؤساء الدول. ويتفاقم الوضع مع ظهور تشريعات تسمح بهذه الممارسة وتبيحها بشكل مطلق، وفي بعض الحالات، بمعاقبة منتقديها. أما الركيزة الثالثة والأكثر أهمية لتكتمل دورة التفكيك الأخلاقي، فتتضمن إعادة تشكيل المؤسسات التعليمية بما يتوافق مع المنطلقات الفكرية والثقافية وحتى العلمية التي تدفع باتجاه التفكيك. ومثال على ذلك هو مايحدث اليوم في بعض المدارس في الولايات المتحدة التي تقوم بتدريس مناهج تثقف على مواضيع وممارسات كانت تعد في السابق مستهجنة ومرفوضة اجتماعيا، بغض النظر عن موافقة الأسرة أو رفضها. ومع الاعتراف بأن العالم أصبح مجتمعا متقاربا وأن مواقع الشبكات الاجتماعية تنقل الأفكار بشكل فعال من المجتمعات الغربية إلى المجتمعات الأخرى، فإن الاستعداد للمواجهة تعد اليوم أمر حتمي خاصة على المستوى التعليمي. ويجب أن تمتد هذه الوقفة من مرحلة رياض الأطفال إلى المراحل النهائية من التعليم، إن حماية المجتمع العراقي من التفكك الأخلاقي تتطلب اتباع نهج متعدد الأوجه يشمل مختلف القطاعات. وفيما يلي مجموعة من التوصيات لمواجهة هذا التحدي: في مقدمتها تعزيز القيم العائلية مع التأكيد على الاحترام والتضامن والتوجيه داخل الأسرة. وتوفير الموارد والدعم لخدمات الإرشاد الأسري لمعالجة الصراعات والتحديات بشكل فعال. ومن المهم ايضا تعزيز التعليم الديني والثقافي في المدارس لغرس شعور قوي بالهوية واحترام المعتقدات المتنوعة. ومن المهم تشجيع التعاون بين الزعماء الدينيين والمؤسسات التعليمية لنقل التعاليم والقيم الأخلاقية. ولا بد ايضا من تسهيل المبادرات المجتمعية التي تشجع التماسك الاجتماعي والقيم المشتركة. وتنظيم المنتديات وورش العمل والفعاليات الثقافية لتعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف شرائح المجتمع. ولعل مراجعة وتعزيز التشريعات القائمة للحماية من الممارسات التي قد تساهم في الانحلال الأخلاقي. مطلب مهم الى جانب وضع سياسات تعزز القيم الاجتماعية والأخلاقية ضمن المناهج التعليمية. على ان تقوم وسائل الاعلام بدورها ايضا من خلال تشجيع الممارسات الإعلامية المسؤولة التي تتجنب الترويج لمحتوى يتعارض مع القيم المجتمعية. وتعزيز الشراكات بين وسائل الإعلام وقادة المجتمع لضمان تمثيل دقيق وحساس ثقافيا. وختاما لابد من توفير متطلبات تنفيذ برامج تركز على الشباب وتوفر الأنشطة البناءة والإرشاد وتنمية المهارات لإبعادهم عن التأثيرات السلبية. وتعمل على تعزيز الشعور بالمسؤولية المدنية والمشاركة بين الشباب من خلال مبادرات خدمة المجتمع. إن تنفيذ هذه التوصيات بشكل جماعي، بمشاركة الوكالات الحكومية وقادة المجتمع والمعلمين والمؤسسات الدينية ووسائل الإعلام، يمكن أن يساهم في حماية المجتمع العراقي من التفكك الأخلاقي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    احسنت دكتور طلال موضوع مهم

يحدث الآن

دي خيا يثير الغموض حول مستقبله

محكمة مصرية تلزم تامر حسني بغرامة مالية بتهمة "سرقة أغنية"

والدة مبابي تتوعد بمقاضاة باريس سان جيرمان

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram