اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > دكتاتورية القرن الحادي والعشرين

دكتاتورية القرن الحادي والعشرين

نشر في: 26 ديسمبر, 2023: 11:07 م

لطفية الدليمي

الحربُ (أو الصراعات المسلّحة كيفما كانت درجتها وشدّتها) هي الشكل الحديث لبقايا الحتميات الصراعية التي وجد فيها الانسان ذاته يتصارعُ مع مثيله والكائنات الأخرى للحفاظ على وجوده البيولوجي.

لنتفقْ إذن أنّ الصراع حقيقة لايمكن تجاهلها في هذه الحياة، وأنّ بعض أشكال الصراع تقودُ إلى إرتقاء الحياة البشرية على المستويين الفردي والجمعي، وأنّ بعض أشكال الصراع غير مرئية ولامحسوسة، وبعضها الآخر مرئي ونتائجه محسوسة، وقمّةُ تلك الصراعات هي صراعُ النوع البشري مع نظيره المضاد، وأحسبها تمثلُ رأس هرم المأساة البشرية في كلّ العصور والأزمان.

غبارُ الحرب، أيّة حرب، يُعمي العيون ويُخرِسُ الالسن ويصدّ العقول عن التفكير الهادئ. التحشيد التعبوي له الكلمة العليا التي لاتُردُّ وبخاصة ونحن نرى مشاهد القصف والتدمير والقتل تطالُ المدنيين نساء ورجالا واطفالا وكل مايديم الحياة وموارد العيش في مدينة غزة المحاصرة. والحرب تسفر عن ألف وجه و ألف لون ولون، وتبعاتُها اللامرئية أكبر بكثير ممّا تراه العيون وتلتقطه الكامرات. من مشاهد الدمار. الموتُ قرين الحرب وتوأمها البشع؛ أما أشقّاؤها المكروهون فيتوزّعون بين معاناة انسانية رهيبة وخفوت الامل في اعلاء شأن الكرامة الإنسانية، وسقوط فكرة أنّ الانسان أثمن الكائنات.

***

الدكتاتورية كذلك حقيقة وجودية حالها حال الحقيقة الصراعية. سيسوّغ كثيرون هذه الدكتاتورية بأنها ضرورة مفروضة في زمن الحرب أو الطوارئ؛ لكنّ أزمان السلم لاتختلف كثيراً عن أزمان الحرب: الفارق الوحيد هو أنّ أزمنة الحرب تقترن بدكتاتورية خشنة معلنة لإيقاع أعظم قدر من الرهبة في المناوئين والمعارضين؛ أما دكتاتورية أزمنة السلم فملساء ناعمة كما الأفعى التي تنسلّ بين أكوام القش.

الديمقراطية ليست نفياً موضوعياً للدكتاتورية. هي نفيٌ للدكتاتورية الخشنة والمعلنة. ثمّ أنّ الديمقراطية هي أقلّ أشكال الحكم السيئ سوءً (تبعاً للمقولة المنسوبة إلى تشرشل) وليست القمّة المرتجاة في نمط الحكم، والدكتاتورية متعشقة فيها كما الروح في البدن الحي.

كلّ سلطة تنطوي على دكتاتورية مضمرة أو معلنة. هذا إقتران شرطي لامفرّ منه. كيف تمارس السلطة أدوارها المرسومة لها؟ عبر القانون. وماالقانون؟ أليس دكتاتورية؟ أنت ترتضي – عبر مدوّنة قانونية إسمها الدستور ومتفرّعاته من القوانين – التنازل عن بعض حريتك نظير الحفاظ على أمنك وممتلكاتك من أن تكون عرضة للإفتئات أو التعدّي أو الاستلاب من قبل آخرين. لاوجود لديمقراطية متفلتة من القانون؛ وبالتالي لاوجود لديمقراطية تخلو من بعض قبضة دكتاتورية مقبولة وإلّا صارت حياتنا ملعبة يفوز فيها الاقوياء بدناّ أو جاهاً أو مكانة إعتبارية أو مادية.

كلّ شيء في الغرب – على العكس من بلداننا – محسوب بقانون، وثمّة دكتاتورية مضمرة تبسط ذراعها الثقيل؛ لكنّ الغربيين أشطرُ منّا. عرفوا كيف يجعلون الدكتاتورية (وهي دكتاتورية القانون مع قدر محسوب من دكتاتورية بعض الافراد) تتسلّل إلى الفضاء العام من غير إستعراضات درامية. رئيس الولايات المتحدة الامريكية على سبيل المثال هو الدكتاتور الاكبر على مستوى العالم إذا حسبنا الامور بمنطق عناصر القوة (الناعمة والخشنة) التي يتيح له القانون إستخدامها وإن كان قيّده بموجبات الدستور وطبيعة تشارك السلطة، والولايات المتحدة الامريكية نفسها هي المثال الأجلى للدولة الدكتاتورية ذات الصبغة العالمية: تعاقبُ من تشاء بغير حساب، وتجزل العطاء لمن تشاء بغير حساب أيضاً وخارج أي غطاء قانوني.

الدكتاتورية الذكية لها شروطها. أولاً: أن تكون دكتاتورية القانون لادكتاتورية الأشخاص. ثانياً: أن تكون ناعمة غير مرئية ولامحسوسة ولايدَ ثقيلة لها على البشر. شيء أقرب إلى كامرات المراقبة في الشوارع: أنت لاتراها وهي تراك دوماً وتحصي عليك كل أفعالك.

العلم – وذراعه التقنية – صار يُستخدمُ في كلّ المواضع من قبل الافراد والحكومات، وقد ساعد الحكومات في تليين دكتاتوريتها وجَعَلَها أكثر نعومة وقدرة على التسلّل إلى أماكن معيشنا اليومي. صرنا رغماً عنّا محكومين بدكتاتورية الخوارزميات Algorithms. تكتبُ عن الملحمة الفلسطينية والمعاناة الرهيبة للمدنيين والصمود الملحمي في المدينة المقاومة، فلايلقى منشورك سوى بضع انتباهات، وقد تكون محظوظا لو نال منشورك تعليقا يتيما أو تعليقين في أقصى الأحوال. تنشرُ موضوعاً لاعلاقة له بالمواجهة الغزّاوية مع قوات الاحتلال فترى القراءات وقد عادت لطبيعتها السابقة قبل هذه الملحمة. أنشُرْ عن (بريتني سبيرز) أو أحدث خصام بين فنانتين عربيتيْن سيرتفع عدد القراءات وعلامات الاعجاب. تدققُ في منشورك فتعرف أن ذراع التقنية الفائقة تتحكم في كلماتك لتحجب الحقائق وتديم التعتيم حول مايجري على الارض.

***

يعلم كلّ من له شيء من معرفة أولية بالذكاء الإصطناعي أنّ تطوير الخوارزميات الخاصة بنظم الذكاء الإصطناعي إنما تحصلُ بطريقتين: تطوير برامج حاسوبية (سوفتوير) من قبل المبرمجين، أو الإستفادة من البيانات الكبيرة المستحصلة من التطبيقات الشائعة (فيسبوك على سبيل المثال) لغرض تطوير خوارزميات تكيّفُ نفسها تبعاً للمؤثرات السائدة. نحنُ هنا إزاء دكتاتوية خوارزمية مصوّبة بدقّة نحو تمرير خطاب آيديولوجي محدّد في بيئة مكثّفة من الاستعمار البياناتي Data Colonialism. هنا سنكون بمواجهة معضلة الإنحياز Bias الذي قد يتخذ أشكالاً متعدّدة: إنحيازٌ لعرق أو دين أو لون بشرة أو خلفية إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية، وقد يقود هذا الإنحياز الناجم عن تأثير البيانات الكبيرة إلى إشكاليات مؤذية تمثلُ تحديات للمنظومة القانونية السائدة وحقوق الإنسان، وأعتقدُ أنّ كلّ من تابع البرنامج الوثائقي المسمّى الإنحياز المشفّر Coded Bias على شبكة نتفلكس سيتعلّم الكثير عن مثل هذه الإشكاليات المؤذية.

لنتصوّر الآن كيف سيكون عليه الحال عندما يتضاعف حجم البيانات الكبيرة آلاف المرات (وربما ملايين أو مليارات المرات. لاأحد يعرف اليوم)، وصارت هذه البيانات مخزّنة في آلة فائقة الذكاء تجاوزت مرحلة الذكاء الإصطناعي العام وولجت طور الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري؟ هل نمتلك القدرة على تخيّل حجم التحيّز الذي قد تلجأ إليه الآلة؛ إذ قد تعتبر الآلة أنّ الآلات مثيلاتها يجب أن يكون لها حقوق أعلى من حقوق الكائن البشري، أو قد تحكم على فئة من الناس لها خصائص بيولوجية أو قومية محدّدة بالإعدام؟ ماالعمل حينئذ؟ هذه مشاهد من سيناريو حقيقي وليس تجوالاً ذهنياً في مملكة خيالية منعزلة، وليس هذا التعتيم القسري على الملحمة الفلسطينية سوى تمرين عالمي مرئي على بعض مفاعيل الدكتاتورية الخوارزمية في عالم مابعد الحقيقة الذي صار فيه التضليل الاعلامي وتزييف الاخبار بوسائل التزييف العميق قواعد عمل مُعْتَمَدة.

***

صارت أصواتُ بعضنا صرخات في برية موحشة، لايسمعك فيها أحد. أتخيلُ القيّمين على تخليق مثل هذه الخوارزميات سيجيبونك عن تساؤلاتك: ماذا فعلنا لكي ننال غضبك وسخطك؟ نحن نحجب صوتك فحسب. أليس هذا أفضل ممّا قد يصنعه دكتاتوريون لايجيدون سوى لغة الدماء؟ لعلّ هؤلاء (التقنيين الرقميين) يتغافلون عن حقيقة أنّ الغضب المكتوم في الصدور ماهو إلا موت مؤجّل.

قد تخنق الخوارزميات الدكتاتورية أصوات بعضنا؛ لكنْي أوقنُ أنْ حتى الهمسات الخارجة من قلب موجوع لها مفاعيل في تحديد مخرجات أية حالة صراعية فيها إستخدامٌ مفرط للعنف وأدوات القتل بدم بارد. هذا شكل من الايمان الميتافيزيقي. نعم بالتأكيد. ولكن متى كان بوسعنا إسقاط القيمة الميتافيزيقية في الحياة من الحساب وردّ كلّ شيء إلى حسابات مادية إختزالية باردة؟

أحلمُ دوماً بيوتوبيا فلسطينية تليق بالفلسطينيين، وهم قادرون على تحقيقها؛ فهم شعب ذكي وصبور يتّسم بالجَلَد والعمل المنظّم. أطمحُ أن أرى فلسطين الحرة مكانا آمنا وجميلا يليق بدولة عصرية مرموقة تمتلك بنية تحتية راسخة في التقنية المعلوماتية التي تتيحُ لها أن تكون أقرب لِـ (سليكون فالي) فلسطيني. هل تتخيّلون ماذا يمكن أن يحصل حينها؟ ستكون (فلسطين التقنية المصغّرة) هذه مثالاُ تنموياً صالحاً للإقتداء كتجربة ناجحة على مستوى العالم، وحينها سيضطرُّ أي عدوّ إلى تعديل قوانين الصراع. ليس بالسلاح وحده تتحقّق الاهداف.

ليس السلاح وحده مايحقّقُ الغلبة في معركة الارادات وبخاصة مع عدوّ يتفوّق عليك بقدراته التسليحية النوعية. لابدّ أن يقترن فعل السلاح الذكي مع تحريك مكامن القدرة (الناعمة) Soft Power، وفي هذا الشأن يمتلك الفلسطينيون منجماً كبيراً لاينضب من العقول المبدعة والقدرات المتفوقة.

***

كلّما أحسستُ بمظلمة واقعة على فرد ما أو شعب شجاع سلبت أرضه، وكلّما تزايدت مناسيب الغيظ في القلب إزاء مايجري من عدوان، أراني أندفعُ إلى سماع الترنيمة الفيروزية (أؤمنُ). حينها تلفّني السكينة ويعمرُ قلبي هدوء عجيب:

أؤمن أنْ خلفَ الحباتِ الوادِعاتِ تزهو جنات

أؤمن انْ خلفَ الليل العاتي الأمواجِ يعلو سراج

أؤمن أنَ القلبَ المُلقى في الأحزان يلقى الحنان

كُلي إيمان.. إيمان.. إيمان

أؤمن أنْ خلفَ الريحِ الهوجاءِ شِفاهْ.. تتلو الصلاهْ

أؤمن أنْ في صمتِ الكونِ المُقفلِ.. مَنْ يصغي لي

إنّي إذ ترنو عينايَ للسماء تصفو الأضواء

تعلو الألحان.. كُلي إيمان.. إيمان.. إيمان

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram