TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > سوق العمل وخيارات الأفضلية بين المهارة والتعليم

سوق العمل وخيارات الأفضلية بين المهارة والتعليم

نشر في: 1 يناير, 2024: 09:48 م

د. طلال ناظم الزهيري

مربع الأحلام المهني، هو تعبير مجازي اخترته ليعبر عن واقع التعامل الأسري مع الأبناء في مرحلة الطفولة، والتي يغلب عليها الجانب العاطفي حتى يعتقد الآباء أن الذكاء والفطنة هو ما يميز أبناءهم عن غيرهم، ومع هذا الاعتقاد يرتفع سقف طموح الأبوين في قدرات أبنائهم في مرحلة الدراسة الابتدائية حتى يصل الأمر إلى إيمانهم أن الدرجة الكاملة التي يحصل عليها الابن في اختبارات الإملاء كفيلة أن تدخله كلية الطب مستقبلا. أو أن براعتهم في حفظ جدول الضرب كافية لدخولهم عوالم الهندسة.

ومع هذا اليقين يستند الأب إلى وسادته الوفيرة، يرافقه شعور الغبطة والفرح وهو يتابع أنحاء ابنه (حمودي) على كتبه المدرسية. يسترق النظرات إليه بين الحين والآخر ويتخيله في (معطفه الابيض) أو (خوذته البلاستيكية) أو حتى (عباءته السوداء). وتمر الأيام ويكبر (حمودي) ليحقق حلم والديه ويكون كما تمنوا أن يكون مهندسا مدنيا. لكن (حمودي) الآخر لم يكن في نفس البراعة والاجتهاد، لم يكن مهتما بالدروس التي غالبا ما كان ينشغل عنها في لعب كرة القدم في شوارع محلته. حمودي الآخر فشل في الدراسة ونجح في أن يكون لا عب كرة قدم بارع. تتلقفه الأندية ليحترف فيها. حمودي الأول لا زال يبحث عن فرصة للعمل من خلال التعيين في الدوائر الحكومية، يتظاهر مع غيره أمام أبواب الوزارات، وفي لحظات التعب يقلب حمودي الأول صفحات الإنترنت التي تتحدث عن شهرة ونجاحات حمودي الآخر.! هذه قصة قصيرة عن واقع مرير يمكن أن تتكرر في مجتمعاتنا العربية عامة والمجتمع العراقي خاصة، لكن الحقيقية الثابتة أن ليس كلّ مجتهد في التعليم يحقق حلم والديه كما فعل حمودي الأول. وليس كل بارع في هواية أو صاحب موهبة يحصل على فرصة حمودي الآخر. إنها جدلية الموهبة والمهارة والتعليم. والتي أستطيع أن أضع كل منها في قالب كما اسميته (مربع الأحلام المهني). الأول: يرتبط بالتعليم والذي يتضمن مجموعة من المهن التي تتمناها كل أسرة لأبنائها. (طبيب، مهندس، صيدلي، طبيب أسنان، طيار، أستاذ جامعي، عالم، محامي) ومربع آخر له علاقة بالموهبة والمهارة والذي يتكون من (صنوف الرياضة، ومجالات الفن، وريادة الأعمال).

لكن يبقى السؤال: لماذا تختزل الأسرة العراقية عوالم الأعمال بهذه المجالات فقط.؟

الجواب ببساطة هو الاعتقاد السائد أن هذه المهن لا يزال مجال التوظيف الحكومي فيها مشرع، فضلا عن أنها يمكن أن تحقق العيش الرغيد والشهرة من خلال مردود مادي جيد مقارنة بغيرها. لكن واقع الأمر أن هذه المهن لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من مجموع المهن التي يحتاجها المجتمع، في مقابل نسبة كبيرة من القوى العاملة التي تتوزع على مهن وحرف مختلفة لكل منها مردوده ومجهوده فضلا عن الوضع الاعتباري لها والتي تتشكل من نظرة المجتمع لأصحابها، وبالإقرار أن هذه المساحة الكبيرة لسوق العمل الحرفي لا تتطلب غالبا تأهيلا أكاديميا عاليا. مع هذا فإن مشكلتنا في العالم العربي أننا لا نزال نفكره في عقلية القرن العشرين التي يلخصها المثل المصري القائل: "إن فاتك الميري تمرغ في ترابه". لا نزال نعتقد إلى اليوم أن الوظيفية الحكومية هي مفتاح السعادة والعيش الرغيد وهي عنوان الأمان والاستقرار الاجتماعي. ولعل لهذا الاعتقاد ما يبرره في دول تحكمها حكومات لا تمتلك رؤيا اسراتيجية حقيقية أو تخطيطا مستقبليا لسوق العمل. ولعل من أكبر الأخطاء التي ترتكب اليوم في مجال التوظيف الحكومي هو في تقديم الشهادة على المهارة في متطلبات التعيين هذا الأمر يدفع الطلاب على اختلاف تخصصاتهم إلى الحرص على نيل الشهادة بدلا من الحرص على التعلم واكتساب المهارات الأساسية لمجال التخصص المهني وأكاد أجزم أن الكثير من الطلبة يتخرج وهو لم يتعلم أكثر من 25% من متطلبات التأهيل في تخصصه لانه يعلم أن المعرفة والمهارة ليست مطلوبة. أضف إلى هذا أن تراجع دور القطاع الخاص وعدم وجود قوانين وتشريعات تنظمه كما في الدول المتقدمة قد أسهم بشكل أساسي في شيوع ظاهرة البطالة لعشرات الآلاف من الشباب والذين في غالبيتهم يحمل شهادة جامعية. والحلول المطروحة اليوم ليست مستحيلة إذا ما توفرت النوايا الصادقة، لكن علينا أولا أن نعيد تكوين الثقافة المجتمعية في إطارها الجديد وهي أن فلسفة التعليم لأجل الحصول على الشهادة الجامعية، لم تعد هي السائدة، الهدف من التعليم اليوم هو اكتساب مهارة تمكن صاحبها من الحصول على عمل يعيش منه ويؤمن له استقرار مادي واجتماعي. بالتالي ليس من المنطق اليوم أن يهدر الشاب أربع سنوات من حياته في دراسة تخصص ما وهو يعلم أن فرصته في الحصول على عمل بهذا التخصص محدودة أو مستحيلة. بل من المنطق أن يستغل هذه السنوات في التدريب على حرفة أو مهنة من خلال مراكز التدريب المهني يضمن من خلال الحصول على فرصة عمل. ويمكنه لاحقا من تحقيق طموحه في إكمال الدراسة إذا كانت الغاية مرتبطة بعوامل نفسية واعتبارية. أما على المستوى الحكومي فإن الحلول المطروحة يمكن أن أوجزها بالآتي: مراجعة شاملة للتخصصات الدراسية على المستوى الجامعي لإعادة توجيهها وفقا لحاجة السوق ومتطلبات العصر وهو امر دعوة اليه في مقالات سابقة. كما ندعو إلى مراجعة شاملة لشروط وضوابط القبول في الجامعات بما يحقق فرصا عادلة للطلبة المجتهدين. وفي سياق متصل يجب العمل على فتح مراكز التطوير المهني في عموم المحافظات بشروط ميسرة وحوافر تشجيعية لا كساب المتدربين المهارات الحرفية في الحرف والمهن التي يحتاجها سوق العمل مع التأكيد على أهمية مراجعة قوانين الضمان الاجتماعي من خلال فرض الاستقطاعات التقاعدية على أصحاب المهن والحرف في القطاع الخاص وشمولهم بالرواتب التقاعدية في حالات العجز والإعاقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أين اختفوا؟

الزواج رابطة عقدية تنشأ من دون وسيط كهنوتي

العمودالثامن: نظرية "كل من هب ودب"

قناديل: انت ما تفهم سياسة..!!

العمودالثامن: كيف ننجو؟

العمودالثامن: رواتب نواب جزر القمر

 علي حسين يستحق مجلس النواب العراقي 40 مليون برقية شكر من العراقيين، ليس فقط لأنه ساندهم ووقف إلى جانبهم وناقش قوانين تتعلق بالصناعة والتعليم والصحة ، وليس فقط لأنه يقدم لهم المتعة مجاناً...
علي حسين

قناطر: الغربُ الديمقراطي جدّا!

طالب عبد العزيز لقد عرّت الوقائعُ في غزّة جسد الغرب الديمقراطي العفن، وتكشفت فلسفة انسانه عن أنيابٍ ومخالب قذرة ودامية هذا الاستعمار البريطاني- الأوربي-الأمريكي، الذي أحسن الظنَّ به بعضُ الموهومين العرب، ممن هاجر منهم...
طالب عبد العزيز

معايير الديمقراطية والحلول المبتورة

فرات المحسن أفضل من يقيم طبيعة الديمقراطية هم أهل البلد وليس مؤسسات أو هيئات أو مقيمون من غير أهله، أي أولئك الذين يتفاعلون ويتأثرون يوميا بمجريات وقواعد السلوك الديمقراطي وإجراءاته القائمة في مؤسسات الدولة،...
فرات المحسن

التاريخ النكد: كورسك بين معركتين

د. ليث مزاحم خضير لحسن حظ الأوكرانييّن أن يتزامن احيائهم لذكرى يومهم الوطني، أو عيد استقلالهم عن الاتحاد السوفيتي -سَلف غريمهم الحالي- وهم في (شبه) أفضليّة نسبيّة على جبهات القتال، ذلك أن احتفال أوكرانيا...
د. ليث مزاحم خضير
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram