TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: الشعر والسرد

تلويحة المدى: الشعر والسرد

نشر في: 27 أغسطس, 2010: 09:13 م

شاكر لعيبيأعتقد أن التجربة الداخلية، الوجودية، تأخذ شكلاً مناسباً لها من دون تعسّف أو إقحام من الخارج. لا يتابع الشعر الدُرْجَة (الموظة) الشكلانية التي تجد لها بين زمن وآخر أنصاراً ومدّاحين وممارساتٍ مفرطةً تعتبر ما عداها هراءً أو شعراً مشكوكاً به. جميع المواصفات التي تنتصب بين وقت وآخر بصفتها قواعد وقوانين للشعر لا فائدة كبيرة منها على ما يبدو، لأنها تثبت بعد حين عدم كفايتها،
 ولأنها تتعلق خاصة (بالشكلانيّ) وليس (بالشعرية). الأخيرة غائبة في الغالب في المواصفات الجاهزة التي تحدّد القول الشعري عما سواه. ثمة دوماً قواعد نسبية صالحة مرة وغير صالحة مرة، ثمة حدود متحركة تفصل هذا القول عما سواه شرطها الأكبر أن تعلن عن حساسية مختلفة في تَلمُّس العالم عبر الكلام المسمّى شعراً، في لحظة معينة.المشكلة الأهم في ذلك كله أن (الحداثة والحديث) يمكن أن يفسَّرا على أنهما وعي منشق عن القواعد النهائية، بل مع أي قواعد ثابتة، في كل عصر. إن فكرة "الخروج عن عمود الشعر" في تراث الشعر العربي كانت تعبّر عن نقدٍ للشعراء الذين لم يلتزموا بالقواعد المتوطّنة بصفتها الشعر الصافي. كان نقداً شكلانياً أيضاً وليس شعرياً. أولئك الشعراء كانوا مدفوعين دفعاً للخروج عن العمود انطلاقاً من تجاربهم الداخلية التي لم تشأ سوى اللقاء عفوياً بشكلٍ مناسب لها. لذا كانوا شعراء حديثين في وقتهم كما نعرف. كانت الحداثة في ذلك العصر، كما في كل عصر، نزوعاً تجريبياً بالمعنى العميق الخلاق للكلمة وليس اللعب العابث. لو كان الأمر صحيحاً فإن تجريبية بهذا المعنى تصير استبعاداً مستمراً للقواعد الجاهزة والأصول النهائية. لذا فإن المحاولات الراهنة في تثبيت شروط محددة لقصيدة النثر مثلاً، ناهيك عن طابعها المستجْلَب عَسَفاً، لا تقول شيئاً ذا بال عن الشعر والشعرية. الأخيرة في هذه المحاولات تبدو مهملة ولا قيمة لها، حتى بمعناها العريض الذي يمسّ فنون الكلام وفنون العين كليهما. ومنها شرط السردية الذي يُقال لنا إنه مُقَوِّم جوهريّ في قصيدة النثر.إذا لم يقم السرد في القصيدة بوظيفة شعرية، إذا لم يتقطر شعراً، إذا لم يؤد إلى خلق مناخ شعري غامض فوّاح عنيف، فما الفارق بين طبيعته هنا وطابعه في "الحكي" القصصي الباهت. ليس الأمر حادثة جديدة فالفارق واضح بين السردية في شعر عمر بن أبي ربيعة وأي مقطع قصصي مستلّ من إحدى المقامات اللاحقة المعروفة. ما زال الأمر قائما في يومنا الراهن كذلك حيث يشع السرد في بعض الروايات الكبيرة المعاصرة ليصل في بعض المقاطع أو الجمل إلى مصاف شعر تام الأوصاف من دون وزن وقافية. كيف يمكن إذنْ أن تقوْم تجربة شعرية على السرد بشكل أساسي دون التفريط بمسعاها الأساسي: القبض على الشعر وحده؟. سؤال صعب ستجيب عليه نصوص الشعراء كلّ على طريقته الخاصة به ومذاقه ورهافته وتمعُّنه. إن السهولة الظاهرية المخادعة التي تنساب انسياباً في شعر قائم على السرد، يمكن أن تجعل القارئ ساهياً عن اكتشاف "الشعر" نفسه. ليس مهما بعد ذلك طوبوغرافية النص على الصفحة المطبوعة: أبياتا تقليدية منفصلة أم كتلة نثرية، بل ولا حتى بيتاً شعرياً عمودياً كما في حالة عمر بن أبي ربيعة، لكي لا نتحدث عن كفافي أو أليوت.إن تفكيك النص إلى أبيات منفصلة متوالية أو تجميعه في "كتلة" لن يستطيع إخفاء القوة أو الهشاشة فيه، في شعريته. ومرة أخرى فإن هذه الشعرية ستكون موجودة أو غائبة، وهو ما يتوجب الاستمتاع به أو العثور عليه. وخلافاً للقصة القصيرة فإن الشعر القائم على السرد لا يمنح نفسه بالسهولة ذاتها بسبب الكثافة المفترضة في بنائه والدقة في اختبار أقلّ مفرداته شأناً والإحكام في ضرباته النهائية. لن تكون سارداً فقط لكنك ستكون في اللحظة عينها شاعراً. وهنا تقع العقبة القصوى. عين على الحكاية المتخيّلة وعين متزامِنة على نقاء الكلام الذي يتوجب إبقاءه في الفضاء الشعري وحده. السرد في الشعر عنصر يشتغل على يد الشاعر وبرؤيته. عنصر واحد قد يكون طاغياً في تجربة محدّدة ومختفياً في تجربة وجودية أخرى، وليس شرطاً لازما وحيداً. عندما يستلهم الشاعر من اليوميّ، من يومياته، من السرديّ، ومما أودّ أن أطلق عليه "الأدنى"، ليتوصل إلى مغزى عميق ما، إلى أمر شامل، إلى هاجس كبير ومما أطلق عليه "الأقصى" فإن السرد يظل مناسَبَة، لكي لا نقول ذريعة، للشعر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram