د. كريم شغيدل
بعنوان مباشر يوظف الشاعر رعد زامل سيرته في قصيدة (بطاقة تعريف) في مجموعته(انقذوا أسماكنا من الغرق) مبتدئاً بما هو ثقافي،
أي إنه يتجاوز البعد الاجتماعي ليعلن عن صياغة سيرته الذاتية بوصفه شاعراً، وهذا يعني أن المضمون سيكون شعرياً أكثر منه واقعياً، كما يتمثل البيئة، إذ تتماهى الذات مع الطبيعة من خلال استحضار البيئة المائية للجنوب، وبتكثيف لغوي ودلالي يتمثل حزن الجنوب والظمأ الوجودي:
" أنا شاعرٌ مغمور/ تحت موجة ولدتُ/ وبالحبل السري/ مرتبطا كنت بأكثر من نهر/ ولدت أحدب من الحزن/ وعلى ظمأ ترعرعتُ"
نلاحظ بداية السمة المكانية للولادة، التي تنطوي على انزياح دلالي يمهد للبيئة التي يهيمن عليها عنصر الماء ببعده الكوني، إذ يمثل جذر الحياة بحسب المنطوق القرآني" وجعلنا من الماء كلَّ شيء حي"، فالماء مكان للولادة ورحم ترتبط مشيمته بأكثر من نهر، ثم نأتي إلى صفة المولود (أحدب من الحزن) للدلالة على الارتباط الوجودي بالحزن، ثم يردفها بدلالة الظمأ كناية عن الحرمان الوجودي المتأصل في حياتنا، وربما يحيلنا إلى دلالة الظلم والقسوة والعنف وما نقلته سرديات واقعة الطف من ثيمة الظمأ، ثم يرسم النص صوراً متناسلة للحياة القاسية التي تتداخل مع السيرة الذاتية، إذ يقول:
" في الليل.. / وبعد كل موجة دم/ عندما يمر البرابرة/ ويهددون بالنفي/ نهرا هنا/ أو يستبيحون بالجفاف/ بحيرة هناك/ تحتشد الأسماك/ وتطالب باللجوء الى دمي"
بدلالة الليل يحاول النص تكثيف مناخ الحزن والخوف وظلامية فعل القمع الذي يعقب الكوارث والحروب (بعد كل موجة دم) كأنما أراد النص أن يصور طوفان الخراب الذي مرَّ بأهل الجنوب، لا سيما عقب انتفاضة آذار 1991 بعد غزو الكويت، وما حدث من عمليات قتل جماعي ودفن الأحياء في مقابر جماعية، علاوة على الحروب التي كانوا حطباً لها، ويأتي مرور البرابرة مقترناً بموجة الدم، بإحالة مباشرة إلى نص كفافيس (في انتظار البرابرة)، مستحضراً الواقع المرير وما آلت إليه بيئة الأهوار بقرار سياسي تعسفي من تجفيف، يعني في بعده الرمزي محواً للهوية وللوجود، وبما أن النص اتخذ من تماهي السيرة الذاتية مع البيئة التي تشكل بعداً وجودياً وهوية انتماء، فإن المحو هنا لا يعني البيئة فحسب، وإنما يعني الإنسان نفسه، الذات التي تشعر بالتماهي مع مكونات الطبيعة، وتؤنسنها وتستنطقها وتبادلها المصير، ثم يربط النص دلالياً بين الولادة والصلب، ثم ينتقل إلى الانتساب لأبوين مجازيين، الأب يمثل الهوية الفرعية للشاعر، والأم تمثل المأساة، إذ يقول:
" هكذا صُلبتُ فوق الماء/ وهكذا تحته ولدت/ من أب يدعى الجنوب/ وأم يسمونها الحرب/ وفي كنفهما عشتُ/ كطفل يتيم/ وكطفل بالدموع أحتشدُ/ وأطالب باللجوء/ الى نفسي"
فالذات هنا ضحية منذ الولادة، مولودة تحت الماء ومصلوبة فوقه، وبهذه الثنائية (فوق/ تحت، أب/ أم) يجسد النص جانباً من السيرة الذاتية على لسان الراوي العليم/ الذات الشاعرة، فما بين الجنوب الأب والحرب الأم عاشت الضحية بلا أبوين حقيقيين، ومثلما تطلب الأسماك اللجوء لدمه يطلب الطفل الذي هو اللجوء لنفسه، وبتوظيف شعري مباشر لا يحتمل التأويل تجسد سيرة الشاعر مأساة الإنسان العراقي من سكنة الجنوب ذي البيئة المائية المعروفة بالأهوار، ويجسد رعد زامل مأساة ابن الماء بتحويل المحمولات الرمزية للماء من النماء والخير وأصل الحياة إلى محمولات معاكسة تدل على الموت والقمع والتهميش، لكن في النهاية يتم اختزال سيرة المأساة بسيرة الأنا ولجوء الذات إلى نفسها، ثم ينفتح النص على تحولات أخرى، فاللجوء إلى النفس يعني العزلة، والحرب الأم سيدة عارية الساقين تجر بحبل قسوتها كلباً يعوي، والكلب هو صاحب السيرة/ الشاعر (رعد زامل) بصريح العبارة، الطفل الذي تمسخه الحرب كلباً يعوي وهو يمضي إلى حتفه مع الجميع الذين تسوقهم الحرب، الحرب الأم التي تتحول إلى زوجة وأخت كبرى تجتاح الحياة، ثم يتحول الطفل/ الكلب/ الأنا إلى نسر لا تغريه الربوة ولا الوردة الشقراء على الهبوط، بمعنى مغادرة مباهج الحياة أمام قسوة الحرب، فسيرة الأنا هنا تساوي سيرة الحرب التي التصقت بحياتنا بصفة امرأة تقاسمنا العيش والوجود (الأم، الزوجة، الأخت، السيدة)، وظاهرة الربط الدلالي بين السيرة الذاتية وسيرة الحرب، هي واحدة من المعطيات الثقافية التي أفرزتها الحروب والمجاعات، إذ توفرت الظاهرة على سياق ثقافي تبلور من خلال الهم الذاتي، أو الخوف الذاتي من المجهول، فالحرب وفرت سياقاً ثقافياً للانحياز للذات وقلقها الوجودي، ذلك أن فكرة الموت باتت تحاصر الإنسان، والشاعر ربما أكثر تحسساً من سواه بخيبة الأمل وإحباطات الواقع اليومي، وأشد توجساً من فكرة الزوال، فضلاً عمَّا يساوره من شعور دائم بالعدمية رسخته مشاهد القتل وسلوكيات العنف والقسوة، وهنا مؤشر آخر على التحول النسقي في توظيف السيرة الذاتية، لا يستحضر أية توظيفات موروثة أو تقليدية.