لطفية الدليمي
حياتنا لاتخلو من أسئلة صعبة. كلُّ طورٍ فيها له أسئلته المشتقّة من تفاعلات العقل والواقع، وهي تفاعلات مشتبكة ومعقّدة.
أولى الاسئلة وأقلّها تعقيداً هي الاسئلة الخاصة بإدامة الوجود البشري؛ لكنّ أعقد الاسئلة هي تلك التي تتناول معضلات وجودية قد تكون مستجدّة أو متوارثة من حقب قديمة.
تخيّلْ إبنك – مثلاً – وهو يسألك: لماذا أدرسُ وأجتهدُ وأنا أعرفُ أنّ مآلي هو البطالة. هذا السؤال قد يبدو بسيطاً؛ لكنّه معقّدٌ أشدّ التعقيد بسبب السلسلة السببية التي قد تترتّبُ على ماقد يبدو إجابة ناجزة. سؤالٌ يقودُ لسؤال أكثر تعقيداً من سابقه. ستقولُ له: خُلِقنا لكي نعمل، ولاأظنّك ترتضي لنفسك أن تبقى بلا عمل؛ ولكي تعمل يجب أن تثري مؤونتك من المعرفة التي تفتحُ لك بوّابات العمل المناسبة. يمكن هنا أن يجيبك: ماذا عن (فلان) الذي صار مليارديراً وهو لايتحصّلُ على قليل من المعرفة؛ بل هو صفرُ اليدين منها؟. ستقول له: هذا ليس مثالاً مناسباً. ربما يكون إبنك ذكياً متمرّساً في البحث والاستقصاء فيقول لك: لو أجرينا مسحاً بسيطاً لرأينا أنّ معظم أثريائنا هم من غير حملة الشهادات العليا أو حتى الأولية. ستقول له: الشهادة ليست كلّ شيء. من قال أنّ الشهادة تعني إمتيازاً قادراً على ولوج بوّابات المعرفة الحقيقية والتقنيات التي تصنع حياتنا المعاصرة؟ هنا يمكن أن يفاجئك: ولماذا إذن أدرسُ وأنا أعرف أنّ هذه الدراسة لن تفيدني بشيء؟ هنا ستلجأ إلى الرافعة المثالية: الدراسة تبقى ذخراً وخصيصة مطلوبة. هي مثل الذهب: زينة وخزينة.
هذه الاسئلة - التي يمكن أن تمضي في مسالك شديدة التعقيد – هي أسئلة جوهرية نناورُ أحياناً – بل وغالباً – في الاجابة عنها. نحبُّ أن نفعل الاشياء على طريقة التوارث الكسول. لانحبُّ المغامرة. بيئتنا الاقتصادية وسياقاتنا العقلية تؤثرُ السلامة والمكوث في منطقة الامان لأنّ أثمان الخسارة باهظة وقاتلة.
هذه الاسئلة مهما تعقّدت تبقى بسيطة بالقياس إلى أسئلة أخرى تقترنُ بمعضلات وجودية كبرى. تخيلْ مثلاً أن يسألك إبنك ذاته بعد جولة مناظرة مشتبكة: لماذا أتيتَ بي ياأبي إلى هذا العالم؟ هل سألتني إن كنتُ أرتضي القدوم من عدمه؟ أنت كنتَ أنانياً لاتفكّرُ سوى بلذتك اللحظية عندما إبتدأت مسيرتي في التشكّل الاوّلي من حياتي الجنينية. لاأستثني أمّي من هذا. أنتما الاثنان آثرتما اللذة وجئتما بي إلى هذا العالم الذي لم أكن لأختاره لو أعطيتُ فرصة الخيار. بمَ ستجيب؟ هل ستقول أنّ هذه هي لعبة الحياة، وماكلّ أفعالنا فيها محسوبة ومقيسة بموجب خياراتنا. هل سيقتنعُ إبنك؟ وقبل هذا هل أنت مقتنع؟ هل ستسكنُ نار المساءلة في أحشائك؟
هذه بعضُ الاسئلة المعقّدة التي تترتبُ على ثنائية الحتمية / الارادة الحرّة. أسئلة كثيرة تتموضع في هذا المساق ولها قوّة المساءلة الوجودية لمعضلات البدايات الاولى. قَمْعُ مثل هذه الاسئلة ليس بالخيار الأمثل لأنّك لابدّ ستواجهها في يوم من الايام عندما تدفعك واقعةٌ ما إلى التفكّر الشامل في حياتك: التفكّر أبعد ممّا تأكل وتشرب لجهة مساءلة لحظة الخلق الاولى.
كثيرون سيقولون: الحياة جميلة رغم كلّ مشقّاتها، والاسئلة الكثيرة تفسدُ جمال اللحظة الحاضرة. الافضل أن نعيش بدل أن نتساءل في موضوعات ليست لنا عليها سطوة التكييف والتعديل والضبط وإعادة التوجيه.
الحياة لعبة. قد تكون لعبة حاسوبية لسنا فيها سوى (سوبر ماريو Super Mario). قد نتصوّرُ أنفسنا أبطالاً جبابرة في وقت لسنا فيه أكثر من لعبة صغيرة بيد عمالقة يروننا أقزاماً أمامهم. هذا بعضُ الحس المأساوي بالحياة، وفي غياب هذا الحس سنظلُ مثل الديدان الصغيرة الملتصقة بعشب الارض، تعيشُ في عالم ببعديْن ولاتتصوّرُ أنّ كوناً شاسعاً يوجد في الافق البعيد عنها.
السعادة وسلامة البال لاتأتيان مع إنكار الاسئلة الجوهرية. محاولة البحث والمساءلة واحدة من دوافع العيش البشري حتى لو إقترنت ببعض الحزن والاسف وشعور طاغٍ بالخسارة والخذلان
. لاأظنُّ أنّ كائناً بشرياً حقيقياً يرتضي العيش مثل دودة في سلامة الوجود وايثار الاطمئنان الرتيب تحت طيات العشب المظلمة التي لم تصلها أشعة الشمس لتطهّرها من العفن.