ستار كاووش
عليك أن تجد الطريق دائماً نحو الأشياء الجميلة، لا تكف عن المحاولة ولا تتوقف عن ركل أحجار الطريق لتصل الى أشياء مختلفة وأماكن جديدة لم تزرها ولم تُفكر برؤيتها من قبل. هكذا كنتُ أحدثُ نفسي وأنا أتهيأ لزيارة متحف النحات التعبيري بارلاخ (١٨٧٠-١٩٣٩).
كان المتحف خارج مدينة هامبورغ، بعيداً عن المكان الذي سكنتُ فيه. في البداية فكرت بالذهاب مشياً كعادتي بالبحث عن تفاصيل المدن التي أزورها، لكن حين نظرتُ الى الخارطة، عرفتُ بأني أحتاج الى ساعتين ونصف للوصول الى المتحف، لذا غيرت الفكرة وإتجهتُ مباشرة الى القطار الذي توقف في عدة محطات قبل أن يوصلني قريباً من هذا المتحف الذي يتوسط أرض زراعية وبنايات ريفية تحولتْ الى أماكن ترفيهية وثقافية بعد أن كانت في السابق قصوراً صغيرة وبيوتاً صيفية تعود الى بعض العوائل الغنية التي كانت تقطن هذه المنطقة. خرجت من محطة القطار ماشياً بين شوارع صغيرة تحيطها الحدائق والأشجار الرطبة التي بللها المطر، ولم تمض بضع دقائق حتى وجدتُ نفسي أمام المتحف الذي كان عبارة عن بناية مستطيلة الشكل مبنية من الخارج بالطابوق الذي تم صبغه بلون أبيض، ويتوسطها باب أسود مربع الشكل، فيما أخذت واحدة من لوحات الرسام باول كلي مكانها فوق الواجهة بعد أن طُبعَتْ على قماشة بمساحة عشرة أمتار تقريباً، كإعلان عن معروضات المتحف.
ورغم إن المتحف يحتوي على أعمال العديد من الفنانين مثل جورج غروس وغوغان وديكس وكلي وغيرهم الكثيرين. لكني جئت في هذه الزيارة بشكل خاص لأتمتع بأعمال النحات التعبيري المذهل أرنست بارلاخ الذي سمي هذه المتحف بإسمه، ويضم بين جدرانه مائة وأربعين عملاً نحتياً من الخشب والبرونز والخزف ومواد أخرى غيرها، كذلك يعرض المتحف أربعمائة عملاً تخطيطياً ودراسات للكثير من منحوتاته المهمة. وما أدهشني حقاً هنا، هي منحوتاته الخشبية، يا لهذه المادة المليئة بالحياة والدفء والحيوية، حتى بدتْ لي هذه المنحوتات هي ذات الأشجار التي شاهدتها وسط الحدائق في طريقي الى هنا. نعم هكذا تتحول الاشجار الى أعمال ستبقى الى الأبد، الاشجار التي منحها الفنان حياة جديدة، وصارت منحوتات نابضة بالحياة والحكايات التي لا يستطيع الإمساك بها سوى فنان من طراز بارلاخ. ورغم خطوطه التي بدت خشنة في التخطيطات، لكن اشكاله تحمل الكثير من الترف والانسجام والقوة الممزوجة بالهيبة والغموض. كل أعمال بارلاخ تقريباً هي تنديد بالحرب وما تتركه من أزمات، لذا بدت أشكاله كإنها لمحاربين قدامى، متأهبين دائماً للإنقضاض والحركة، لا يتحكم بهم سوى لمسات النحات ذاته وأصابعه التي توجه هذه الحركة نحو هذه الزاوية أو تلك الجهة. ومع ذلك يمكننا أن نتحسس بعض الغنائية على سطوح الكثير من أعماله.
أولى منحوتاته كانت لإمرأة تتكئ بإحدى يديها على عصا مثبتة بقوة على الأرض، فيما تُخفي بيدها الأخرى خنجراً، وتستدير بجسدها وتنظر الى البعيد، وكإنها بإنتظار شخص قادم أو خطر محدق بها، الانحناءة مذهلة هنا ووجه المرأة يحركنا لا شعورياً نحو جهة اليمين، لتمنحنا هذه الحركة شعوراً بأن المكان واسع وكبير. أمضي بين المنحوتات التي حولت المتحف الى معبد قديم وأنظر الى حركة الأعمال وتقنياتها، ليظهر في واحدة من الصالات عمله الساحر (المغنيات الثلاث) حيث تجلس ثلاث نساء متكئات على بعضهن، ويشكلنَّ ما يشبه شكل الورده على أرضية بيضوية منبسطة. هنا تكاد تسمع الترنيمة القديمة التي كانت ترددها هذه النساء، بعد أن تحولت كتلة خشب البلوط الى حياة وصوت وخيال يعود بك الى تآلف الناس مع بعضهم وسط الأزمات، النساء يرددن اغنيتهن فيما ظهرت على الجدار الخلفي لوحة للفنان غوغان فيها فتاتان صغيرتان من بريتاني كإنهما تستمعان الى النشيد الذى يتردد صداه وسط القاعة. ولم يتوقف الغناء عند (الأخوات الثلاث) بل إمتد الى الصالة التالية، حيث واجهني تمثال المغني الذي ظهر جالساً على الأرض شابكاً يدية حول ساقه المثنية، وساحباً ظهره قليلاً الى الخلف، مغمضاً عينيه ومسترسل بالغناء بهدوء يقترب من الصمت. تجولتُ بين الأعمال المثيرة التي بدت تتحرك وسط قاعات المتحف، أراقب التقنيات والتكوينات المبتكرة والكتل التي جعلها بارلاخ تتوازن بشكل غير مُتوقع، أنظر في عينَيَّ هذا المحارب وإتحسسُ -خلسة من حارس المتحف- وجه تلك المرأة الذي يشبه قصيدة عن الأشجار والطبيعة، ألتَفُ حول هذا الرجل الشاحب الملتف بمعطفه خوفاً من البرد أو الحرب. ثم أُعيد جولتي بين قاعات المتحف لأودع هؤلاء الذين صاروا مثل أصدقائي. وفي النهاية جلستُ على أريكة وسط المتحف متأملاً بصمتٍ، الجمال الذي تركه بارلاخ الذي لم يكن يعلم بأن هذه البناية التي في أطراف مدينة هامبورغ ستصبح متحفاً لأعماله الخالدة. هذه هي عظمة الفن وقوة الابداع وخلود الأعمال التي تقول بأن الحقيقة مرادفة للجمال. في النهاية توجهتُ نحو مقهى المتحف وطلبت فنجان قهوة، وبقيت أنظر من خلف زجاج المقهى نحو الأعمال الجميلة التي توارت خلف النافذة وبدتْ بعيدة… لكنها قريبة جداً مني، حتى أقرب مما أعتقد.