اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الوعي، المعرفة، الإدراك .. حوار مع الفيلسوف دانييل دينيت

الوعي، المعرفة، الإدراك .. حوار مع الفيلسوف دانييل دينيت

نشر في: 9 يناير, 2024: 10:28 م

2 - 3

هارفي بلوم

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

تسبّب رفض دينيت في القبول بوجود إختلاف جوهري بين الذكاء البشري والذكاء الإصطناعي في خلق طائفة من المعادين لأفكاره،

وقد شغلت محاوراته مع جون سيرل* John Searle (من جامعة كاليفورنيا) المجتمع الفلسفي وصارت مثار الحديث الذي لاينقطع لسنوات عدة وبخاصة الموضوعة الخاصة بإمكانية الحواسيب في التعبير عن نفسها حقاً (أو في التعبير عن أي شيء؛ الأمر الذي ينكره سيرل). كانت لدينيت سوابق غير متوقعة تؤكد موقفه المتميز عن المواضعات السائدة: حصل في وقت سابق، وعندما إنبرى الجميع لصب اللعنات فوق رأس فرويد وتوجيه أقسى العبارات له، أن قال دينيت عبارات طيبة بحقه؛ إذ أن فرويد بالنسبة لدينيت (وكذلك بالنسبة للعالم الطلائعي في ميدان الذكاء الإصطناعي مارفن مينسكي** Marvin Minsky الذي جاء على ذكر فرويد في كتابه مجتمع العقل) فإن فرويد كان سابقاً لزمانه في بيان كيفية حيازة الذات لإدراكها الواعي الثمين من الفعاليات الخاصة بعدد غير محدود من العمليات غير الواعية بذاتها (أي بكلمات أخرى من اللاوعي طبقاً لقاموس المفردات الفرويدية)، وهكذا يغدو لاوعي فرويد بمثابة حامل وموطئ قدم للتشبيكات العصبية والمعالجات المتوازية الموزّعة بكثافة أو أي من حيل وألاعيب الروابط العصبية التي ستسمح آخر المطاف لمنظومة تروس مسننة وقضبان وعجلات (إشارة إلى الروبوت، المترجمة) أو شيء شبيه به من الإنطلاق وإنجاز الأعمال ذات القيمة الفكرية العالية في هذا العالم.

دينيت كاتب عظيم التمرّس تناول موضوعة العلاقات بين العقل - الجسد - الآلة في العديد من كتبه، وعندما إلتقيته مؤخراً في مكتبه بجامعة تافتس Tufts التي يعمل فيها كان سريعاً في المبادرة للحديث عن الصعوبة البالغة التي تكتنف الحديث عن العقل في أيامنا هذه من غير الإستعانة بمصطلحات شائعة الإستخدام في علم الحاسوب، وبحسب رؤيته فإن هذا الأمر طيب ومستساغ إلى أبعد الحدود، وقد قال في هذا السياق: " إن إعتماد مفاهيم جديدة غير مطروقة إلى جانب وسائل جديدة في التفكير حول الأشياء بحيث يمكن للمرء وعلى نحو مفاجئ أن يطل على فضاءات جديدة بقصد الإستكشاف - هذا أمر رائع وعظيم بكل تأكيد "، ثم يمضي في القول " اليوم بات من المهم أن تعمل ويداك مقيدتان معاً. إن العمل تحت ضغط المحددات القاسية أمر في غاية الأهمية لإنجاز الإختراعات والأعمال العظيمة: كل الفن العظيم لعصر النهضة أنجِز تحت ضغط متطلبات خدمة الأيقونات المسيحية. هل يمكن للمرء أن ينجز فناً عظيماً تحت مثل تلك الظروف العصيبة؟ بالتأكيد يستطيع. هل كان بإمكان فناني عصر النهضة أن ينجزوا فناً أعظم لو كانوا بوهيميين أحراراً بدلاً من كونهم خدَماً مدللين للأساقفة والدوقات؟ لا، لا أظن ذلك أبداً ". هنا تساءلت " هل أن مقايستك لفن عصر النهضة تفيد بأننا صرنا خدماً مدللين للحاسوب؟ "، فيجيبني: " نعم، بالتأكيد ".

لو أن دينيت توقف عند هذا الحدّ بشأن العلاقة بين الكائنات الإنسانية (سواء كانت مدللة ومستعبدة أم غير ذلك) والآلة فماكان ليُعدّ أكثر من مفكر آخر يضاف إلى قائمة منتخبة من المفكرين الذين يعتقدون بالأهمية الحاسمة المتبادلة بين علوم الدماغ وعلوم الحاسوب، غير أن دينيت يمضي برؤيته أبعد من هؤلاء بالغاً مصاف تركيب جديد له من العمق والجدّة والإتساع بحيث جعلني أتمتم (هيغل) مع كل نفس من أنفاسي: ربما بدأ دينيت مسيرته الفلسفية فيلسوفاً تحليلياً يميل لإستخدام موضوعات الذكاء الإصطناعي لتوضيح مشكلات فلسفية بعينها، لكنه عندما يضع مفاهيم العقل والدماغ في سياق النظرية التطورية فإن الأمر يبدو واضحاً تماماً عندما نقول أن دينيت قد بلغ شأواً غير مسبوق بالمقارنة مع غيره من الفلاسفة.

في حاشية وردت في كتابه المعنون (فكرة داروين الخطيرة: التطور ومعاني الحياة) المنشور عام 1995 يشير دينيت إلى أن تشارلس بابيج Charles Babbage (الرياضياتي وأحد الطلائعيين الأوائل في علم الحاسوب) وتشارلس داروين كانا يحضران الحفلات اللندنية ذاتها وربما مضغا لحم الضأن ذاته، بل وحتى ربما قد ناقشا بعضاً من المفاهيم التي غدت لاحقاً ذات أهمية عظمى في كل من النظرية التطورية وعلم الحاسوب. إن إلتقاء داروين مع بابيج شكّل فكرة أساسية حية في كتاب (فكرة داروين الخطيرة) - وأعني بها أن التطور والحواسيب يدفعهما للإرتقاء ذات العمليات التي صارت مألوفة تماماً لكل مهندس برمجيات: يكتب هذا المهندس قطعاً صغيرة مشفرة على نحو غير مفهوم لسوى مهندسي البرمجيات، ثم تعمل تلك القطع مع قطع كثيرة سواها لإنتاج نظم شديدة التعقيد، وهذه النظم بدورها تعمل مع نظم أخرى سواها لإنتاج نظم جديدة أكثر تعقيداً وأكثر قدرة على الأداء الوظيفي، وهكذا يمضي الأمر حتى ينتهي المرء مع برنامج حاسوبي ذكي، أو لنقل يمتلك من الذكاء قدراً يجعله قادراً على إنجاز ماهو مطلوب منه. في ختام الأمر يحصل المرء على نظم تشغيل أو شبكة إتصالات عالمية (إنترنت)، أو قد يحصل (تبعاً لنوعية المواد الأولية والوقت المتاح) على جزيئات حامض نووي رايبوزي DNA، أو ثدييات، أو إدراك ذاتي.

التمايز، الإختلاف، التشظي، اللاإستمرارية: هذه كلها سماتٌ مميزة مابعد حداثية تسم عصرنا الحالي، وبشكلٍ ما فإن دينيت يدعو إلى تعزيزها. إن الذات (كما يصورها دينيت) هي تركيب بيئي - عصبي متساوق العمل ومرتبط مع نظام معلوماتي أكثر من كونها مجرد كيان ذي ماهية محددة بطريقة صارمة. إن التماثلات بين تفكير دينيت وأفكار مابعد الحداثة هي ذات أهمية ثانوية لأن الإختلافات بينهما هي المسألة الأكثر أهمية، وفي الوقت الذي أفردنا فيه وقتاً طويلاً للحديث عن مابعد الحداثة فإن موضوعات العلوم العصبية وعلوم الحاسوب والبيولوجيا التطورية قد نالت هي الأخرى حصة كبيرة أيضاً وبخاصة من حيث قدراتها التفسيرية الهائلة، والدور المتعاظم لها في شحذ الخيال البشري، والتحديدات التي تفرضها على الفكر البشري.

هارفي بلوم

الحوار

* يبدو أن الحواسيب تساعد في تحقيق واحد من أهم أهداف الفلسفة التحليلية(1)، ولنصرّح به: إنتاج عبارات بعيدة عن الغموض، ولكن في نهاية الأمر لاتستطيع أن تتخلص من عبء الغموض المصاحب للغة الطبيعية؛ لكن تستطيع أن تفعل ذلك - وينبغي لك أن تفعله - مع الخوارزميات الخاصة بتدوين شفرات اللغة الحاسوبية؟

- تعمل الحواسيب على إمتلاكنا لنزاهة طالما تاق لها الفلاسفة وهاموا بها شوقاً منذ أزمان بعيدة: ليس ثمة مجال لمماحكات لغوية أو مخاتلات بيانية، كما ليس ثمة مجال لأية نزعة إنطباعية عند تخليق أي نموذج لخوارزمية حاسوبية؛ ولكن في الوقت ذاته ثمة الكثير من الفسحة المتاحة للإجتهادات الشخصية والتفسيرات الممكنة عندما يأتي دور توظيف ذلك النموذج والإستفادة منه. تدفعنا الحواسيب دفعاً لأن نكون في غاية الوضوح حول الأشياء التي ينبغي دوماً أن نكون واضحين بشأنها، وبهذا يمكن القول أن الذكاء الإصطناعي AI (مختصر عبارة Artificial Intelligence المتداولة عالمياً، المترجمة) هو وسيلة مستحدثة وممتازة حقاً في التعامل مع أنواع محددة من الفلسفة.

* متى بدأت برؤية الفعاليات السيبرنتيكية(2) Cybernetic مشابهة للفعاليات التطورية؟

- منذ بداية عملي جادلت بأن التعلّم ماهو إلا تطور حاصل في البنية الدماغية وجعلت هذه الموضوعة تقع في قلب أطروحتي المعرفية، وأضفت لذلك وجوب وجود خوارزميات للتعلم في الدماغ.

إن ماحصل معي هو أنني مع السنوات لم أقدّر حجم الروح العدائية التي شاعت تجاه التطور وبالغت في التحجيم من زخمها المضاد، وكل ماكنت أبتغي توضيحه للعامة هو: إن الأمر مع التطور واضح وبسيط للغاية ويتعامل معه الجميع يومياً، وهو مثل حال الجاذبية أو الفولكلوريات الشعبية، فما بالكم؟ ماالذي يحصل معكم؟ لِم هذا العداء؟. ساهمت قراءتي لأعمال ريتشارد دوكينز في تعميق معرفتي بالتطور على نحو عظيم كما ملأتني بالدهشة، وبخاصة بعد قراءتي كتابه الموسوم (الجينة الأنانية The Selfish Gene)؛ إذ أصبحت حينها أكثر من مهتم طارئ بما يحصل في حقل البيولوجيا التطورية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram