حيدر المحسن
الحَمَلُ الأسودُ كان زينةَ أربعين فدّاناً، خمسين نعجةً، تسعة أكباشٍ، ثلاثةً وعشرين خروفا وعِجلا وبقرة، خمسة كلاب، وأتان.
في رسائل الجاحظ نقرأ عن فضل السودان على البيضان في القوّة البدنيّة وفي الصبر والتحمّل، لدى الإنسان والحشرة والحيوان والوحش. كان صديقي الشاعر عصام الحلّي يشرح سبب شبابه الدائم بأن لديه قلبٌ فيه قوّةُ قبضةِ غوريللا، وهذه نراها عادةً بلون مظلم قاتم، فهو يقول: يمسكُ قلبي بكفّين عارمتين وعنيدتين على الشّيخوخة والتّفاهة والمرض، ويُحيلها فُتاتا، وليس للفُتاتِ دورٌ أو شأن في دورة الحياة، مثلما هو معلوم.
قالوا: ودُهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى. وكل جبلٍ وكل حجرٍ إذا كان أسود كان أصلب صلابةً وأشدّ يبوسةً. وليس من التمر أحلى حلاوةً من الأسود، ولا أعمَّ منفعةً ولا أبقى على الدهر. وأنفسُ ما في الإنسان وأعزُّه سويداءُ قلبه، وهي علقةٌ سوداء تكون في جوف فؤاده، تقوم في القلب مقام الدماغ من الرأس، ومن أطيبِ ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل، وأحسن ما يكونان إذا ضارعتا السَّواد...
كتبتُ قصّة "رائحة صنوبر قديم" عن خادمة سوداء البشرة تعيشُ يومها الأوّل في منزل عجوز وحيدة. لا شيء في القصّة غير نظرة الفتاة العَبدة إلى الوجود البيتيّ الذي فقدته في حياتها مع أهلها لأنها فقيرة، وشرحُ مفعول سِحر هذا الوجودِ وتأثيره. كان النّورُ يغمرُ كلّ شيء في المنزل، حتى زقزقةِ الجدجد وتكتكة الساعة وهمهمة أيكة التّين عند النافذة. للحظةٍ، والستارة تبعثر الضياء يصمتُ كلُّ شيء:
- أنا تحت أمركِ.
قالتِ الخادمةُ الجديدة، وأقصتْ بصوتها السكونَ الذي تغرقُ فيه آخرُ أصداءِ البيتِ، وكان همسُ خطوِها بعد أن فتحتِ البابَ غيرُ مسموعٍ، وكانت تتأمّل العجوزَ راقدةً في سريرها، مجلودة بالشيخوخةِ والمرض، بلا تنفسٍ تقريباً، ويغطّيها مشملٌ قاتمٌ من مخملٍ قديمٍ. وجهُها نحيفٌ، وملابسُها سوداءُ من زمنٍ قديمٍ، مع مسبحةٍ بين يديها الشاحبتين النحيلتين، وبريقٌ غامضٌ في العينين. على الطاولة علبٌ للدواء، على الحائط مشهدٌ يمثّل منظراً نهرياً، ومنمنمةٌ مرسومةٌ على قوقعةٍ كبيرةٍ، وقرمةٌ ضخمةٌ لنخلةٍ قرب الخوان، عليها قطعةُ قماشٍ سوداء. فكّرتِ الخادمةُ أخيراً في أنها قرمةٌ، وليست شيئاً آخرَ، وأنها ليست مختلفةً. كانت في الغرفةِ أزهارٌ يابسةٌ، ورائحةُ حياةٍ قديمةٍ تزدهر، وأصداءُ ماضٍ يُثقلُ حتى على أغصان اللبلابة التي تتسلقُ النافذة. أحسّتِ الخادمةُ أنها أصبحتْ أسيرةَ إثارةٍ غريبةٍ، وأنها تشعر بالحزن، وكانت تسمعُ موسيقى بعيدة، وتريد أن تهرب من هذا الواقع المبهم.
موسيقى هي مفتاح واقع يبدو منفصلاً وغريباً بالكامل. تراجعتْ خطوة، خطوتين:
- يا لهُ من حيّزٍ فسيحٍ للخراب!
قالت في ذات نفسِها، في حضن تلك العتمة التي تستقبل نداوة المساء. في دوران تلك اللحظات البطيء، كانت الخادمةُ تفحص بعينيها الأغراض في الغرفة. كيف يمكن أن يدخلَ كلُّ شيءٍ في عاداتي؟
تساءلتْ، وكانت جامدةً في ملامحها الذاهلةِ: الآنيةُ. المباخرُ. الأباريقُ الفخارية. وكانت هناك كذلك سجاجيدُ للصلاة، ومصحفٌ، وروائحُ وطعومٌ... إلى نهاية القصّة.
لم يُعطَ الأسودُ إلينا بالتساوي، ولا يفعل الجميعُ شيئاً كلّ الأيام، غير انتظار العدالة. إننا نحتاجُ أن تكون صلابةُ الأسوَدِ في أذرعنا، في السواعد، في الأكفّ التي لا تريدُ أن تُقهرَ، وفي العيون...
روايةٌ للراحل محمد شاكر السّبع يصوّرُ فيها شابّا زنجيّا يعيش في مدينة العمارة، يستيقظ ذات يوم ويبدأ بالعراك مع أهله ومع وليّ نعمته لمّا أراد تهدأته، وجميع أهل حيّ "القادريّة" يسمعون ضجّة
صراخه:
- أريد أن أتزوّج!
وهناك مشهدٌ يمزّق العبدُ فيه ثوبه في الشارع لأنه يطلب امرأةً، وهذه بعيدة عنه أو مستحيلة لأنه زنجيّ ومملوك. تمضي القصّة في أحداثها وحياة شخوصها، ثم نلتقي بالشابّ عَريسا يرتدي دشداشة نظيفة ومكويّة بلونٍ بيجيّ زاهٍ، يقف في باب بيته الصغير، أو يمرّ في الدرب، يسبّح بمسبحةٍ لونُ حبّاتها أزرقُ شذريٌّ، ويترنّم بأغنية عن الحبّ والسعادة، يقطعها حين يُلقي سلامه على المارّة من أهل الحيّ، ويعود إلى الغناء مباشرة بعد ذلك.