ثائر صالح
من يتخيل أن باخ اقتبس مقاطعاً من ألحان أغاني شعبية شائعة واستعملها في بناء لحن إحدى قطع تنويعات غولدبرغ المسماة Quodlibet؟ الجزء الأول من اللحن هو اقتباس من أغنية مطلعها "لم أكن معك منذ زمن بعيد.."،
ويبدو من النص أنها أغنية عن رجل وامرأة فيها الكثير من التورية. يكمل باخ اللحن بعد أن يدمج به مقطعاً من أغنية أخرى تقول "اللهانة والشلغم جعلاني أترك البيت/ لو كانت امي تطبخ اللحم / لبقيت أكثر…"، لربما تحدثت الأغنية عن طالب يسكن في بيت أستاذه كالعادة في ذلك الزمن، وأنه سئم هذا الطعام المعتاد والمتكرر حيث يجري تخزين اللهانة (الملفوف) والشلغم (اللفت) وتناولها بكثرة خلال فصل الشتاء وأجزاء من الربيع حتى قدوم الموسم الجديد. يمكن وصف هذه الأغاني بأنها أغاني جماعية تغنى في الحانات والمقاهي بعد بضعة أقداح.
هذه الاقتباسات اللحنية ليست نادرة في الموسيقى، فهي موجودة على الدوام منذ بدايات التدوين الموسيقي. وينشط باحثون متخصصون وهواة على السواء في فك ألغازها والبحث عن نصوص وألحان هذه المقتبسات. هنا نشير إلى الفارق بين الأغاني الشعبية التي لا يعرف مؤلفها، وهي تعود إلى طبقات قديمة في تطور المجتمع تزيد عن عقود وربما مئات بل آلاف السنين، وبين الأغاني التي يؤلفها أحدهم، فتنتشر لسبب من الأسباب. من الأمثلة على النوع الأول الكثير من الأغاني الشعبية الأناضولية التي وثّقها بيلا بارتوك أثناء المسح الإثنوغرافي الذي قام به هناك في ثلاثينات القرن الماضي، واعتبرها مماثلة لنظيراتها التي جمعها في حوض جبال الكاربات، واستنتج أنها ذات أصل مشترك قد يعود إلى أغاني سهوب آسيا الوسطى في مرحلة الرعي قبل مئات أو حتى آلاف السنين. من الأمثلة على النوع الثاني ما يعرف بالأغاني دائمة الخضرة حسب التعبير الغربي (Ever green)، منها أغاني الأوبريتات الناجحة.
ونعرف أن مؤلفات هايدن تضم بين طياتها الكثير من الألحان الشعبية النمساوية والكرواتية والغجرية (أو المجرية)، وقام هايدن كذلك بتوزيع 273 اغنية اسكتلندية و 16 ويلزية لتقديمها على البيانو.
وازداد اقتباس الأغاني الشعبية منذ القرن التاسع عشر بالتزامن مع انتعاش الحركات القومية وظهور الدول القومية، وصولاً إلى أعمال برامز الرقصات المجرية (وهي في الحقيقة مبنية على ألحان الفرق الغجرية التي سمعها في هامبورغ) والرابسوديات المجرية لفرانس ليست والرقصات السلافونية التي ألفها أنتونين دفورجاك (وهي بالمناسبة لا تستند إلى ألحان شعبية حقيقية، بل هي محاكاة لها). ومع ظهور الأجيال الأولى من الباحثين الأثنوغرافيين مثل بيلا بارتوك وزولتان كوداي والوصول إلى أقدم طبقات التراث الشعبي، أخذ هؤلاء يقدمون ما جمعوه من ألحان وفق أساليب التأليف الموسيقي المعتادة، مثال على ذلك الرقصات الرومانية التي ألفها بيلا بارتوك.