ستار كاووش
كنتُ قد رأيت إعلان معرض الفنان أوتو ديكس وأنا ما أزال في القطار الذي إقتربَ من محطة مدينة هامبورغ قادماً من هولندا، فحين أبطأ القطار سرعته وهو يدخل المدينة، لاحظت الأعلان الضخم الذي شغل جداراً جانبياً من بناية قديمة،
إتضح فيما بعد إنها بناية متحف (ديختورهالن) المحاذي لمحطة القطار الرئيسية. وبعد بضعة أيام وجولات قضيتها في المدينة، ها أنا أخصصُ يوماً كاملاً سأقضيه وسط أعمال هذا الفنان الذي عشقتُ أعماله وتأثرت بها عند بداياتي في أيام بغداد ومعارضها التي بدت اليوم بعيدة. كان البورتريت الذي رسمه ديكس لنفسه أول ما أطلَّ بوجوهنا نحن زائري المتحف، وكإن الرسام التعبيري يريد إستقبالنا ودعوتنا للدخول الى عالمه الساحر والغامض والغريب. وقد بدا ديكس في هذا البورتريت بثوب أبيض طويل، ممسكاً باليت الألوان بيد، وفرشاة الرسم باليد الأخرى وهو يوجه بصره نحونا، نحن القادمين من أماكن مختلفة من العالم لحضور هذه الاحتفالية ومشاهدة أعماله التي تُعتبر في طليعة التعبيرية الألمانية، والتي جعلته مؤثراً بفن الرسم في القرن العشرين. فكرة المعرض هي إظهار تأثير أوتو ديكس (١٨٩١-١٩٦٩) على الكثير من الرسامين والفن التشكيلي بشكل عام، لذا عرض المتحف -بجانب لوحات ديكس- أعمالاً لأكثر من خمسين فناناً ممن تأثروا به أو إقتربوا من أعماله بشكل أو آخر. هكذا وجدتُ نفسي وسط عالم العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، حيث لوحات ديكس التي رسمها بين الحربين العالميتين، والتي تناول فيها التغييرات التي حدثت على ألمانيا وسلوكيات الناس وأوضاعهم النفسية والجسدية، وحرَّفَ بعض أشكاله لإجل إيصال التعبيرات التي يبحث عنها. وقد اشتهر في تلك الفترة في رسم الكثير من البورتريهات التي تعتبر ذروة أعماله، حيث تلك الوجوه الساهمة والحائرة كإنها تبحث عن ملاذ لها وتسعى لما يطمئن مشاعرها. وقد رسم شخصيات مختلفة من المجتمع، مثل الشخصيات الأنيقة والثرية، الأطباء، الباحثين، المتسولين، الأدباء، ربات البيوت، ومعاقي الحرب وغيرهم الكثيرون. وهناك أيضاً المناظر الطبيعية التي شكلت جانباً كبيراً من هذا المعرض، والتي عالجها ديكس بطريقة واقعية أنيقة، لكن يلفها شيئاً من الغموض، مثل المشاهد التي رسم فيها البيوت المغطاة بالثلج، هنا ترى السحر وهو يتحرك مع فرشاة الرسام، حيث تطير مجاميع من الغربات السود فوق البيوت البيض التي غطاها الثلج، لتنتج هذا التضاد وهذه الكآبة بعد أن تحولتْ الغربان الى مايشبه الطائرات التي تقصف البيوت الناصعة المطمئنة.
في هذا المعرض الاستثنائي تناوبت أعمال ديكس بين لوحاته الكبيرة والبورتريهات والتخطيطات ومناظر الطبيعة وأجواء المدن المزدحة بالناس والتفاصيل والروح الألمانية. وكل الأعمال تقريباً تحمل شيئاً من التنديد المباشر أو الرمزي بفضائع الحرب ونتائجها المؤلمة على الناس، حيث يضع على القماشات هذه الوجوه التي تعيدنا الى مناخات الروائي إريك ماريا ريمارك، وخاصة روايته العظيمة (كل شي هاديء على الجهة الغربية).
تبقى تقنية ديكس فريدة وممتعة ومؤثرة بين كل التعبيريين، حيث يستعمل طلاءً ناعماً ومزججاً كأساس للوحاته ثم تأتي طبقات الألوان الخفيفة واحدة فوق الأخرى، لتكون النتيجة هذه الروائع الحيَّة التي تنبض بالحياة، والتي جعلَ الرسم من خلالها يدخل الى قلوب الناس العاديين، هؤلاء الذين رؤوا أنفسهم داخل لوحاته وكإنهم بصحبة الأشخاص الذين رسمهم. هنا رأيتُ كيف إن هذا الأستاذ عرفَ سر الرسم وأمسك بتقنياته ومعالجاته التي أظهرَ من خلالها الجانب النفسي للشخصيات التي رسمها. وهكذا عاشت أعماله مع الزمن وكبرت أهميتها وصارت المتاحف تتباهى بإقتناءها وعرضها في معارض استعادية ضخمة كهذا المعرض الذي أتجول الآن بين أرجاءه.
شارك في هذا المعرض مجموعة من الفنانين المجايلين له أو الذي جاءوا بعده، والذين تركوا أعمالاً صارت جزءً من الفن الألماني المعاصر، مثل جورج بزاليتس ونيكولاس بارتي وألموت هَيسه وكاتي هيك وأنسليم كيفر ورون موك، وغيرهم الكثير من الفنانين الذين تناولوا رسم الانسان وحياته. في نهاية الجولة، جلستُ في أحد أركان المتحف، أتصفح الكتاب الضخم والأنيق الذي طبعه المتحف لمعروضات هذا المعرض، وعرفت إن تاريخ الفن يصنعه ناس مليئين بالتواضع والصبر والجمال. إنهم العباقرة الذين لديهم مشاريع حقيقية تعكس رؤاهم وتقول الكثير عن جمال الانسان حتى في أوقات الأزمات. خرجت من المعرض منتشياً وأنا أمشي في شوارع المدينة على خطى أوتو ديكس وأصدقاءه الذين كانوا هنا ذات يوم بعيد، وأفكر بالزمن الذي يعيد نفسه بشكل أو آخر، حيث يسير رسام عراقي مثلي على الطرقات التي سارَ عليها فنانون أحَبَّهُم وإنتمى لهم بقوة، فكلنا -بطريقة ما- إمتداد لبعضنا دون فوارق ولا إختلافات، وهذا هو الحافز الذي يجعلني أجوب المدن والاماكن غير المتوقعة للبحث عن هؤلاء الذي اشترك معهم في شيء جوهري، هو السباحة في هذا النهر الزاخر بالجمال والذي نُسميه الفن.