ستار كاووش
يطل أمامي متحف الفنون والحرف اليدوية ببنايته الكبيرة كلما خرجتُ من البيت بإتجاه محطة القطار، ولكونهِ متاحاً وبهذا القرب، لذا أَجَّلتُ زيارته الى آخر يوم لي في مدينة هامبورغ.
وها هو الوقتُ قد حان لذلك، لذا توجهتُ صباحاً نحو المتحف، لرؤية ما يحتوية من أعمال وفنون أتمنى تحمل لي بعض المفاجئات. قطعتُ التذكرة وأخذت معها الكتلوك الصغير وخارطة فيها قاعات وتفاصيل المتحف. كنتُ قد قرأتُ يوماً عن أعمال خزفية هنا من ضمنها مجموعة تحف بعنوان الراقصات، لذا لم أنتظر البحث فى الكتلوك، وتوجهتُ نحو موظفة المتحف التي مرَّتْ من أمامي، وسألتها (في أية قاعة أجد راقصات الخزف من فضلك؟) فأجابتني وهي ترفع رأسها نحو الأعلى كإنها تتذكر مكان القاعة (في الصالة الثالثة الكبيرة، بعد معرض البيانو)، فشكرتها ومضيتُ نحو هدفي، بعد أن قررت البدء بمشاهدة هذه الأعمال ثم أعود لباقي محتويات المتحف، لكن ظل كلامها عن معرض البيانو يشغل جانب من تفكيري، وسأعود لذلك لاحقاً. وأنا أمضي بين أروقة وقاعات هذا المكان الجميل عرفت بأن هذا المتحف هو أكبر متاحف مدينة هامبورغ، وأكثرها تنوعاً، حيث اللوحات الفنية وأعمال الحفر على الخشب والأزياء القديمة والمرايا التي تعود لفترة الآرت ديكو والآلات الموسيقية والأثاث والتحف الاسلامية القديمة والجرار الأغريقية وحتى الفن العراقي القديم، والكثير من التحف الأخرى التي لا تخطر في بال أحد. ويُضاف الى كل هذا، المعارض الكبيرة التي يستضيفها المتحف دائماً وتعرض أعمالاً جديدة وغير متوقعة. ثم هناك أعمال البورسلين الذي أنا اليوم بصدد مشاهدتها. متحف فخم وواسع جداً حيث لا يكفي يوماً واحداً لمشاهدة كل محتوياته. لذا قررتُ أن أقوم ببعض الاستراحات بين كل بضع ساعات أو بين كل مرحلة فنية وأخرى.
وصلتُ قاعة راقصات البورسلين، وما أن وضعت قدمي في الداخل حتى جذبني إيقاع الحركة وتناغم الأيدي، إنه إبتهال للجمال تشكله خمسة عشر راقصة، حيث يطغي لون البورسلين الأبيض ليمنح المكان نوعاً من الحكمة والخفة والنصاعة، وهي من إبداع الفنان الفرنسي أغاثون ليونار (١٨٤١-١٩٢٩) الذي اشتهر بمنحوتات الراقصين وأعماله التي تنتمي لأسلوب الآرت نوفو. في هذه التماثيل نرى مصادر جمال كثيرة وتبدو متباعدة، لكن عبقرية ليونار هي التي جمعتها في بوتقة واحدة، ليقدم من خلالها نموذجاً للفن الرفيع الذي يسلب العقل ويبهر الروح ويهز المشاعر. وبسب نبوغ هذا الفنان ورفعة موهبته فقد دعاه الكسندر سانديه مدير مصنع خزف دي سيفر لعمل هذه المشروع الأعجوبة، كي يتم عرضه في معرض الخزف العالمي الذي أقيمَ في باريس سنة ١٩٠٠، وما أن عُرض هناك حتى أثارَ إنتباه الكثيرين، وتحدثَ الجميع عن عظمة هذا الجمال، ليحصل ليونار عن هذا المشروع المبهر على الميدالية الذهبية للمعرض.
يتكون العمل من إثنتي عشر راقصة، إضافة الى العازفة وفتاتين تحملان المشاعل، حيث الرشاقة هي أساس كل شيء هنا، واستثمار الفضاء بشكل مثالي، حيث جمع الفنان بين النماذج اليونانية الكلاسيكية مع حركات الراقصة لوي فولر التي كانت في أوج شهرتها في ذلك الوقت، وساعده في ذلك، الانتقالة النوعية التي حصلت في تطور طين وعجائن الخزف والبورسلين في تلك الفترة، ليمتزج كل هذا مع عبقرية ليونار، وينتج لنا هذه التحف التي تشكل مشروعاً جمالياً خالداً. هنا يمكننا أن نرى كيف وضَّفَ هذا النحات شكل الوشاح ومزج حركته الانحناءات المذهلة لشكل الراقصات مع ثنيات الملابس المنسابة بنعومة مثل ستائر اغريقية، والأكمام العريضة والأوشحة التي تتطاير بين الأيدي، فتتحول الى هالة فوق رؤوس الراقصات اللواتي يشبهن زهوراً بيضاً انتصبت فوق الفساتين التي حاكى بها الفنان أيضاً الأعمدة الأغريقية القديمة، فيما ترتفع المشاعل عالياً، معلنة عن تحول البورسلين الى ضوء يغشي الأبصار، ومشيرة الى ايماءت الأيدي وحركة الرؤوس والجمال الأنثوي الطاغي.
بعد خبرته الطويلة في صناعة التماثيل والميداليات والفخار والعمل في التصميم، تفرغ ليونار سنتين كاملتين لإنجاز هذا العمل الجميل، الذي وقفتُ أمامه متعجباً من دقة التصميم ورهافة المعالجة وقوة التأثير. هنا لا يمكنك سوى الوقوف احتراماً لهيبة العمل الفني الذي منحَ المتحف الذي يُعرض فيه، والمدينة التي يوجد فيها أهمية إستثنائية تجعل محبي الجمال يتهافتون من بقاع عديدة للوقوف في حضرة الفن الذي يتجاوز الزمن ويمضي الى الأمام. إستدرتُ حول التماثيل من كل جانب، وأعدتُ التمعن في تفاصيلها وأنا أتأمل جمال الصنعة الممزوجة بالتعبير والابتكار. وبعد ساعة وسط هذه الابتهال والرقص الذي بدا لي أبدياً، إنسللتُ من القاعة بهدوء، كي لا أزعج الراقصات، يملؤني البياض، بياض الفن وبياض البورسلين وبياض التاريخ الذي صنعه هؤلاء الأفذاذ أمثال أغاثون ليونار.