صلاح حسنيحتاج كل عراقي أن يذهب إلى عيادة الطبيب النفسي، وقد يحتاج أيضا إلى الذهاب إلى أكثـر من مختص لتشخيص أكثـر من علة نفسية أصابته خلال الأربعين سنة الماضية ، التي هي حصاد الديكتاتورية والحروب التي لم تتوقف إلا لكي تشتعل من جديد . أربعة أجيال عراقية يحمل كل فرد منها قصة هي اقرب إلى الفانتازيا من أي شيء آخر إن لم نقل هي الفانتازيا بعينها .
وبالرغم من إن الأدب العراقي الروائي والقصصي تحديدا قد تناول هذه الثيمات بكثرة خلال هذه السنوات، إلا إن الأعمال التي عالجت هذه المواضيع بطريقة التحليل النفسي قليلة للغاية . لكن المجموعة القصصية الجديدة للقاص والروائي العراقي حنون مجيد " تاريخ العائلة " الصادرة عن دار فضاءات بطبعتها الثانية والتي ضمت اثنتي عشرة قصة طويلة تختار السايكولوجيا كتقنية لتحليل حياة الشخوص الذين تناولتهم القصص ، خصوصا إذا عرفنا إن الكاتب متخصص بعلم النفس .تعتمد القصص أيضا تقنية القص أو الحكي إن شئنا الدقة ، وهي التقنية ذاتها التي يستخدمها الطبيب النفسي في معالجة مرضاه ، إذ يطلب منهم أن يقصوا أو يحكوا له كل شيء عن حياتهم لكي يستنبط منها المعطيات التي سيتم على ضوئها افتراض طريقة العلاج . حنون مجيد لا يفعل أكثر من ذلك ، إذ يترك أبطاله يتحدثون عن كل شيء ويقوم هو بإعادة تدوين الحكايات ولكن بطريقته هو التي لا تختلف عما يقوم به الطبيب النفسي . هناك ما يعزز هذه التقنية هو إن الكاتب تناول حياة أشخاص مفردين ولم يتناول مجموعات من الأشخاص ، لان الطبيب – الكاتب لا يمكنه أن يعالج أكثر من شخص واحد على انفراد .من أكثر القصص التي تنطبق عليها هذه التقنية قصة " تاريخ العائلة " التي حملت المجموعة اسمها اذ نكون بالفعل أمام طبيب نفسي يحاول معالجة امرأة مصابة بحالة من الرهاب ميئوس منها . إن الخوف غير المبرر الذي تعيشه هذه المرأة من رجال أو أعداء غير موجودين هو انعكاس لصورة زوجها الذي تركها ، هذه الصورة ستحل محل أي صورة أخرى لأي رجل . تقف المرأة المريضة أمام لوحة فنية معلقة على جدار في عيادة الطبيب تصيبها بالرعب وتطلب منه أن ينزلها لأنها تشبه الصور الكثيرة المعلقة على جدران بيتها هي . يقوم الطبيب بإنزال اللوحة لكن المرأة تهرب من العيادة وهي في حالة من الخوف الشديد . سنعرف لاحقا أن المرأة هي التي رسمت كل هذه الصور وعلقتها على جميع جدران بيتها . أما قصة " ما سوف أفعله غدا " فهي عن رجل وحيد يزيد عمره عن الستين سنة ويعيش على نبش ذكرياته ، إذ يستعيد الأحداث التي مرت به ويتذكر طفولته في أزقة مدينته البعيدة التي يتمنى أن يزورها لكن عمره يخذله . من خلال استعادة الذكريات تأخذنا القصة إلى بغداد القديمة بجانبيها الكرخ والرصافة، إلى نهر دجلة وشارع غازي ومقهى الزهاوي وشارع الرشيد والباب المعظم وشارع النهر. أحلام يقظة هو كل ما يفعله هذا الرجل بعد إن مضى كل شيء .. فقدان المكان الأول لا يوازيه أي فقدان لأنه يجرف كل شيء .من بين أكثر القصص رعبا قصة " استئصال عقل " وهي على الأغلب مأخوذة من الواقع السياسي العراقي لكنها معالجة بطريقة مختلفة . تروي القصة حكاية سجين سياسي في زنزانة انفرادية يحرسها كلب مدرب شرس يجوع لفترة طويلة كي ينهش السجين حال إطلاقه . لكننا في النهاية سنعرف إن حالة من الألفة انعقدت بين السجين والكلب بسبب مدة السجن الطويلة ، وبدلا من أن يقوم الكلب بنهش السجين ينقض على الحارس ويمزقه ." حتى يباع البيت " قصة النزوح العراقي إلى المجهول بعد الاحتلال والحرب الطائفية ، لكن الكاتب لا يشير إلى ذلك علنا . رجل مثقف فقير يعرض بيته للبيع من اجل أن يشتري بيتا أصغر ويوفر فائض المال لكن البيت لا يباع فيقوم صاحب البيت باستعراض حياته وعلاقته بهذا البيت وحديقته وتلك الشجرة الوحيدة فيه ، لقد شيد هذا البيت بنفسه وله في كل زاوية فيه ذكرى . هذا المثقف الفقير يقرر التخلي عن مكتبته للمشتري المفترض الذي سيشتري البيت باستثناء بعض الكتب لكتاب مفضلين ، لكن أين هذا المشتري ومتى يجيء ؟ . بيع البيت هنا في هذه القصة هو إشارة إلى ما حصل للعراق من هروب جماعي إلى الشتات بعد المآسي الكبيرة التي حلت بالعراقيين طوال الأربعين عاما المنصرمة . القاص حنون مجيد هو من مواليد محافظة ميسان الجنوبية ولد عام 1939 درس التربية وعلم النفس ويعمل رئيسا لتحرير الموسوعة الصغيرة في دار الشؤون الثقافية وخبيرا في دار ثقافة الأطفال وهو بالإضافة إلى كتابة القصة القصيرة والرواية فأنه يكتب المسرحية وقصص الأطفال . وقد صدرت له تعاقب الفصول ، البحيرة ، الطائر ، لوحة فنان ـ رواية المنعطف وهي واحدة من أهم الروايات العراقية وهذه المجموعة القصصية تاريخ العائلة ، ثم مغامرة في ليلة الغابة وهي قصة مصورة للأطفال ـ وله رواية تحت الطبع بعنوان ـ مملكة البيت السعيد ـ وقد ترجمت قصصه إلى العديد من اللغات الأجنبية.
حنون مجيد فـي "تاريخ العائلة".. قصص من منظور سايكولوجي
نشر في: 29 أغسطس, 2010: 05:13 م