المثنى/ أحمد ناصر
كان ذلك قبل 49 سنة وبالتحديد في 7 كانون الثاني 1975، رتل من سيارات الـ"إيڤا" العسكرية توقفت أمام نادي الخضر الرياضي حيث أفرغت حمولتها من البشر، وجوه مُتعبة ومكدودة من طول الرحلة ومتاعب السفر، خليط من أعمار شتى لا تعرف لم هي هكذا أو أي ذنب جنت، رِجال ونساء أطفال وشيوخ شباب وشيبة، سِيقوا من بيوتهم من أرضهم تاركين خلفهم ممتلكاتهم وذكرياتهم، الى اين؟ لا مُجيب ومن أين يُؤتى بالجواب، ومن له القدرة على الإجابة!.
كيف ألقت المقادير بـ"كاكا رشيد" وعائلته في الطرف الجنوبي من العراق، وبالتحديد في قضاء الخضر، هذه هي واحدة من تلك القصص، بالتأكيد هناك أسوأ منها، لكن المؤكد هي أنها حقاً قصة مؤلمة.
وهكذا كانت بداية القصة :سالار رشيد سالم احد افراد العائلة الكردية تحدث لـ(المدى) "بعد أن توقف رتل السيارات عند مدخل قضاء الخضر، أخذنا القائممقام الى مبنى القائممقامية، وبعد سؤال منه وجواب منا، تأكد له إننا لا علم لنا بما حدث ويحدث لنا، ثم قرأ علينا كتاب مديرية (أمن ديالى) والذي يذكر بأننا نادمون وعائدون الى أرض الوطن من إيران، ولذا علينا الذهاب الى قرية الظاهرة في قضاء الخضر".
ويتابع، "عندها أخرجنا أوراقنا الرسمية ومستمسكاتنا الثبوتية والتي تثبت أننا مِلّاك لأراضينا بشكل رسمي وإننا عراقيون ومن سكنة خانقين / علياوه/ قرية حاج سالم كريم ، ومثلما تفاجأنا، كان القائممقام قد فوجئ أيضاً، وللإمانة كان رجلاً شريفاً بمعنى الكلمة ومتعاطفا معنا جداً".
ويمضى سالم في حديثه: "بعدها أمر بأن نبقى في القضاء وليس علينا الذهاب إلى قرية الظاهرة وأمر بفتح صفوف مدرسة الفتح الإبتدائية التي كانت بنايتها قريبة من نادي الخضر الرياضي، وكذلك أمرَ بفتح قاعة النادي الرياضي لإيوائنا واتخاذها سكناً مؤقتاً لنا".
من جهته، تحدث ابراهيم نويع من وجهاء مدينة الخضر لـ(المدى): "تجمعنا حول الرتل لكن ليس من أجل المشاهدة، كُنا فقط نريد أن نعرف، من هم هؤلاء الضيوف ومن أين أتوا؟ وما الذي جنوه حتى أُهينوا هكذا؟".
ويضيف، أن "الوجوه مُترِبة رغم بياض البشرة، ورغم سمات الصحة التي تعتليها، أعيُن وجِلة تتفحصنا بنظرات غير مُستقرة، متوجسة خيفة وحذر، عرفنا منهم أنهم من خانقين قد رُحِّلوا من أرضهم من دون معرفة الأسباب، يومان من الزمان كان قد مضى عليهم وهم في الطريق لا يعرفون إلى أين وجهتهم".
ويستدرك نويع، "حضر الكبار من أهلِنا ومن ضمنهم والدي السيد نويع، فتشجعنا وتقربنا من الغرباء الذين بعد الآن لن يكونوا غرباء أبداً ثم بانت لنا ملامح القصة واتضحت فصول المأساة، انتفض الجمعُ من كبار أهلنا الطيبين وراحوا يساعدوهم على النزول، عندها اقتربنا أكثر منهم فسمعنا كلامهم وكان بغير لسان، شَمّر الكبار والصغار منا عن سواعدهم، فذهب الخوف والتردد من تلك الأعيُن وتلك القلوب، فارتاحت واطمأنت وهدأت النفوس المُتعبة".
ويذكر، "بعدها بسنوات، وبعد أن تآلفنا معهم وتآلفوا معنا، وبعد أن صاروا منا وصرنا منهم، وبعد أن أحببناهم وأحبونا، وبعد ان تم كل ذلك، عندها عرفنا القصة كاملة في بيت العم المرحوم (كاكا حميد واخيه رشيد سالم) حيث كُنّا كثيراً ما نجتمع في أوقات مختلفة، ومن أجمل وأمتع تلك الأوقات من كانت في ليالي الشتاء الطويلة، حيث "سماور الچاي المهيل، وجدر الشلغم وأكواب الچاي الحامض".