اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > تمثلات الهوية الوطنية العراقية.. كرة القدم أنموذجاً

تمثلات الهوية الوطنية العراقية.. كرة القدم أنموذجاً

نشر في: 27 يناير, 2024: 09:48 م

حيدر نزار السيّد سلمان

يؤكد باحثون في التاريخ السياسي والاجتماعي، خصوصاً من الغربيين الذين درسوا تاريخ العراق منذ نشأته الحديثة عام ١٩٢١، يؤكدون بإصرار مثير على إخفاق الحكومات العراقية المتعاقبة، لا سيما الملكية التي دام حكمها ٥٧ عاماً، في ترسيخ الهوية الوطنية وبناء مشاعر بالانتماء العراقي الجماعي للمكونات العراقية،

وبنحوٍ يتجاوز الهويات الفرعية ويشكّل قاعدةً لبناء دولة موحّدة بمشاعر شعبية مشتركة. لكنّ هذا الرأي المكرر يمثل إجحافاً صريحاً وهو يقدّم عرضاً لبلد تمزّقه الصراعات الطائفية والعرقية والمناطقية يصعب تحقيق وحدته والتحامه الوطني. وإذا كان هناك ما يمكن العثور عليه من نزاعات مكوناتية فإنّها ليست إلا عرض مَرَضي غير معدِ، ولا يمثّل حالة من الانتشار، وبالتالي يمكن معالجته. أما الواقع الذي تقدّمه التمثلات الآنية في الحراك الشعبي المثبت للهوية العراقية فهو يشير إلى العكس من الأحكام التاريخية التي أشاعها الكتّاب الغربيون وروّجها كتّاب ومؤرخون عراقيون وعرب.

أنجز رجال العهد الملكي بشقَيهم السلطويّ والثقافي عبر أنظمة التربية والتعليم والصحافة والمؤسسات الحكومية، وفي مقدّمتها المؤسسة العسكرية، جزءًا كبيرًا من المهمّة التي أخذوها على عواتقهم ببناء هوية وطنية عراقية على أنقاض العثمنة والتناحرات القبلية والمناطقية والمذهبية، إذ اعتمدوا مناهجَ تعليم أوليّ صاغه بعناية التربويّ ساطع الحصري وآخرون، وكانت تهدف إلى ترسيخ الشعور العراقي المشترك لكن بإطار عروبي قوميّ. وبجهد موازٍ نهضت الصحافةُ العراقيةُ بوظيفة نشر الروح العراقية والتركيز على رمزية التاريخ العراقي وفرادته والتذكير بالأصول الحضارية المشتركة وتغليب العصبية العراقوية على بقية العصبيات، وبهذا السياق أدّى المثقفون العراقيون عبر كتاباتهم المتنوعة ومنهم رجال حكم دَوراً عضوياً، مستندين إلى عقيدة سياسية تأثّرت بالحداثة والنزعة العصرية. ويمكن الاطلاع على نماذج مثيرة للانتباه نشرتها الصحافةُ عن اليابان وألمانيا وفرنسا بموضوعة الهوية والجغرافية الوطنيتين بغية إيجاد مقاربات تماثلية مع التوجه العراقي.

ومثل هذا الجهد التوحيدي شاركت به المؤسسةُ العسكريةُ عبر الدمج وترسيخ مفاهيم الوطنية العراقية بين الأفراد المنتمين إلى هذه المؤسسة والمنحدرين من أصول مذهبية وعرقية ودينية تمثّل التنوّع العراقي المستهدف بالتوحيد الهوياتي.

ومن المغالطات التي أثارها كُتّاب ومؤرّخون غربيون ومحليّون هي المتعلّقة بمذكّرة الملك فيصل الأول، والتي أشار فيها إلى الانقسامات الكتلوية العراقية المعيقة لِعملية الوحدة الوطنية، فقد عَدَّ هؤلاء هذه المذكرة دلالةً صريحةً على استحالة تحقيق هذا الهدف ونجاح المشروع الفيصلي؛ بيد أنَّ فيصلاً كان يعبّر عن إدراكه العميق للمعضلات التي تواجه مشروعه وما يجب أن تفعله النخب السياسية والجهاز الثقافي لتجاوز هذه المعضلات. والرجل لم يعلن عن فشل مشروعه كما روّج هؤلاء، بل أشار إلى التحدي الذي يتطلب استجابةً واقعيةً وصلبة.

أرست هذه الجهود التوحيدية قاعدةً صلبةً لِلهوية الوطنية العراقية ورسّخت ثقافياً للمشاعر الوطنية والعراقوية والتاريخ المجيد الذي يمثّله العراق رغم محاولات القوميين ربط ذلك بالعروبة. ومع ذلك بقي العراق هو القلب النابض والرأس وجمجمة العرب، فهو القائد المتبوع، وبرز هذا التناقص في المواقف بين دعاة القومية ودعاة العراقوية بعد انقلاب تموز ١٩٥٨ مع دوام التذكير بالهوية العراقية المستندة إلى تاريخ مجيد وروابط الجغرافية والسلوكيات الاجتماعية، وطبقاً لذلك يمكن القول بأنَّ جهود الجهازَين الدولتي والثقافي الملكيين نجحت بإنجاز جزء كبير من مشروعها التوحيدي، وتحوّل ذلك إلى إرث مجتمعي يعتز بالهوية العراقية ويمجّد العراق كوطن للعراقيين بمختلف تنوعاتهم. ومن خلال تاريخ العراق المعاصر يمكن ملاحظة الجدل حول الانتماء الوطني والتراشق الكلامي بين شخصيات عراقية متعددة الانتماءات العِرقية والمذهبية، وهي تذود عن وطنيتها ضدّ محاولات التشكيك بها، كما هو في الرسالة البليغة والحادّة التي رفعها الشيخ محمَّد رضا الشبيبي إلى رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز في عام 1965، وبالتأكيد فقد سعى الجميع إلى إثبات عراقيته ووطنيته المعمدة بالنضال والدم. وطبقاً لذلك فإنَّ مفاهيم وسلوكيات الهوية أخذت حيزًا كبيرًا، حيث استبطنها العراقيون روحياً.

يمكن للمطلع اللماح أن يعثر على تمثلات واقعية لهذا الاستبطان والرسوخ الهوياتي من خلال سلوكيات ومواقف دالة على قوّة الشعور الوطني وانغراسه في الوعي الشعبي، وهو ما يمكن ملاحظته بعد ٢٠٠٣ عندما حاولت السلطةُ الجديدة بتشكيلتها المذهبية والعراقية أخذ الأمور باتجاه آخر مضاد لِلمشروع الفيصلي ومكرَّس للهويات الفرعية كهويات أساس يُقسّم كلَّ شيء على وفقها، غير أنَّ الذي حدث هو انبعاث المكنون الوطني لمواجهة هذا التحدي متجسّداً بوقائع مهمّة أبرزها ما شهدته الاحتجاجات الشعبية منذ ٢٠١٧ وذروتها في عامَي ٢٠١٩ و٢٠٢٠ من تباه بالهوية العراقية والتمجيد بالوحدة الوطنية. بيد أن الدلائل الأكثر سطوعاً تتمثّل في الاندفاع الوطني الشعبي المبالَغ فيه أحياناً بالمؤازرة الوجدانية العالية المفاعيل للمنتخب الوطني العراقي بكرة القدم، الأمر المثير للدهشة والذهول عند غير العراقيين، لكنّه بحقيقته تمثيل أسمى للوازع الوطني، وتعبير عن المكنون الداخلي المستبطَن بالوجدان الشعبي؛ وخلاصته أنَّ هذا المنتخب والفرق الرياضية الوطنية الأخرى هو ممثله الحقيقي الموحد القادر على تحريك نزعاته الوطنية الصادقة، بل طبقاً لما يمكن ملاحظته فإنَّ الجمهور عثر على ضالته الوطنية الممثلة لتوجهاته الصادقة في هذا الفريق وسط حطام التناحر السلطويّ ومحاولات تكريس النزعات التقسيمية ذات الأبعاد المذهبية والدينية والعِرقية، والأكثر هو الرفض الوطني العراقي لإرادات إقليمية تسعى بمثابرة لتكريس هذه النزعات بمعونة من قوى داخلية متنوعة التوجهات. وقد وجد العراقيون المفعمون بالروح الوطنية في ذلك تحدياً استجابوا له بالاندكاك والتلاحم مع الفريق الواحد غير المقسّم.

من خلال المنشورات والابتهاج العظيم للعراقيين بفوز منتخبهم الوطني في أيّة مباراة، يمكن اكتشاف التمثلات الوطنية والنزعة الهوياتية عند العراقيين، إذ تشكّل مباراة المنتخب فرصةً للتعبير عما يختلج أرواحهم من عشق لبلدهم والتوق إلى أن يكون عزيزاً متبوعاً لا تابعاً، وقوياً مؤثراً وقائداً لا مُقاداً … هذه التمثلات التي تُظهر ما يستبطنه العراقيون من عراقوية راسخة تتحدى محاولات إخضاعهم بثقافات لا وطنية وفرض الهيمنة عليهم بإيقاد جذوات الهويات التمزيقية المُفككة: هي خلاصة أهل العراق الصادقين، وهُم يعبّرون عن رفضهم لذلك وإظهار ولائهم الوطني باحتفالات وفرح وتعبيرات بفريق رياضي يتجاوز حالات التمزّق ويجسّد حالة الوحدة الوطنية. بلدٌ بهذا التاريخ الحضاريّ يستحق الحبَّ رغم كلّ محاولات الطمس والتدمير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram