اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الجغرافية والمخيلة في الرحلة إلى اليمن

الجغرافية والمخيلة في الرحلة إلى اليمن

نشر في: 27 يناير, 2024: 09:48 م

أوريليا هيتزل

ترجمة: هدى حمودة

أراقب مرور قافلة العرب الأَكثر بُطئٌا:

بلاد العرب السعيدة، مازالت أَصداء هذه التسمية تتردد اليوم في الذّاكرة الأدبية. ولا يمكن لكاتب الرّحالة تجنّبها فرحلته تَرتبط دائما بهذا الماضي السّحيق.حيث يحاول أن يكون بطلاٌ ملحميّا في أراضٍ غريبة...

لأن اليمن ظلّ في الغالب مكانا قاحلاٌ، ولأن المدن التي يُمكننا زيارتها هناك معروفة أحيانا منذ القِدَم، وتتطابق مع كتاباتٍ وجدت منذ زمنٍ بعيد، يُخيل للرحالة الغربّي بأنه يسافر في الماضي. لذا يُنظر لهذا المكان الأسطوريّ على أنّه مَهدُ الثقافة؛ ولكنه أيضا أرضٌ للمغامرة، فالسّياح نادرون هنا، الرّحلات صعبة و خطرة، وأحيانًا تكون ممنوعة.بعضها أخذ تقريبا بُعدًا أسطوريًا فيقترن ذكرها بالرحالة كحملة أيليوس غالوس Aelius Gallus،بعثة كارستن نيبور Garsten Niehbur، رحلة الصيدلاني أرنوArnaud أو اعتزال آرثر رامبوArther Rimbaud.

" إنْ استطاع المَوقع الجغرافي دائما تَحديد مصير شعب ما، في مَرحلة ما من تاريخه، فسيكون في اليَمن حيث نَلمس هذا التّأثير بشَكل خاص".هكذا يؤكّد جوزيف شلهوب.

جواهر البحر الأحمر، رومان غاري عن دار غاليمار.

لأنّ عجائب هذا البلد قد عُرفت منذ القٍدَم عند الكتَّابِ الكلاسيكيين، و في الكتاب المقدّس كما في القرآن. فإن شُهرة مَلكة سبأ وذُرّيتها في أسَاطير الدٍّيانات الإبراهيمية الثلاث، وفي الآداب والفنون، تلعب حتما دورا مؤثرا في مخيلة الكتَّاب الرَّحالة إلى اليمن. ففكرة مملكةٍ تكون قد حكمتها ملكة سبأ الشهيرة لا يمكن إلا أن تحرك مخيلة الرحالة. هذه الأسطورة غنية بفرضيات تاريخية تشكّل بالنسبة لليمنيين هوية ثقافية متينة؛ إن لم تكن ملكة سبأ قد حَكمت هذه الأرض، فهي مازالت تُهيمن على المِخيَال.. في رواية عن رحلته لليمن، عدن العربية، يروي بول نيزان Paul Nizan: " في 1926 سمعت بعض التجَّار يتحدّثون بعاطفة متناهية الصّدق عن لقاء سُليمان بملكة سبأ، وعن مملكة بلقيس وساحل العطور. كانوا يعتقدون أن هذه الممالك على أعتابهم."

لم تكن الثروات المادية ما جاء بهؤلاء الكتاب الذين نقترح هنا إعادة قراءة قصص رِحلتهم إلى اليمن، ولا كلهم كانوا يبحثون عن جواهر حالمة، شاعرية.لكن جَلّ نصوصِهم تجاوزت تجاربهم الشخصية،لتقول شيئا ما عن بلاد العرب السعيدة، بكونهم جزءًا من تاريخها الأسطوري.هذا المنظور يُقرأ في سِياقهِ الزّمني؛ تأريخيٌّ لكنّه في نفس الوقت زَمن الكتابة الحَاليّ.في "اكتشاف ملكة سبأ" الذي نشره أندريه مالرو André Malraux على مجلة L'intransigeant يستعير نغمة ملحمية. فتتحول هذه الرحلة الجغرافية بالأصل إلى مغامرة مدهشة. فيما يميل رومان غاري Romain Gary أكثر إلى توظيف الشعرية والرومانسية بمزاج هزلي أحيانا. سفره هو أيضا رحلة روحية، بخلاف السائد. فيبدأ بعرض كل أسباب رحلته على شواطئ البحر الأحمر، بداية بالجانب الأفريقي ثم العربي:

لا مادية هي الكنوز التي جَلبتُها من هناك، وحين تعجز الرّيشة عن التقاطها، ترحل إلى الأبد. كروائي عاشق لهذه الجواهر الآفلة، متناهية النقاء وأحيانا مُعتمَة، لكنها دائما فريدة ومُدهشة في لمعانها الغامض، انطلقتُ في إثرها نحو مَناجم الغنى والفقر ألامنتهية، تلك التي كنا قديما نُسميها الرّوح الإنسانية – أقول قديما، لأن الكلمة عَبرت العَصر مع صَداها البَعيد-.

بالنّسبة لهما، بلاد العرب السعيدة تستحضر بشكل خاص ماضٍ أسطوري، تَجسّد عند رومان غاري من خلال طفلة صغيرة، يختم ظهورها الحكاية، و تحمل داخلها تلك النظرة العابرة الموحية التي يتطلّع إليها روائي شاعري جاء "لمطاردة كل الفراشات قصيرة العمر". طفولة العالم هذه المرتبطة بالبحث عن الطفلة الصغيرة، تعثر على صدى خاَفِت مع طفولته، التي ستكون بالتالي مرتبطة، بعيدا عن قضايا العالم العربي السياسية كما عن قضايا حياته الخاصة كبالغ، باكتشاف هذا العالم الذي يثير فيه الكثير من الحنين:

لا بحر في العالم أبعد من الحاضر ولا مكان آخر لحضور أكثر سحرًا للماضي المُتلاشي. في زمن مضى كانت هذه المراكب التي تأتيني منها صلاة العشاء مُحمَّلة بالعبيد والصبيان المخصيّين، العذارى الناضجات و أسلحة السير باسل زاهاروف، أكبر تجار الموت في العصر الحديث، الذي كنت أحمل له قديما فطوره الصباحي بفندق نجرسكو في نيس حيث كنت نادلا.

هذا الحنين لحياة أخرى ارتبط بطفولة الراوي الخاصة بعمق، وليس غريبا وصفه للطبيعة اليمنية بهذه النبرات المتحمسة: " خضرة هذه الأرض الأمومية المترفة، مهد العرب ". في ذات الوقت هو ماضٍ ثقافي كامل ينبعث من جديد ويختلط بذكرياته الشخصية:

لأنهم ولدوا هنا قبل أن يُعمّروا الصحراء، هؤلاء الزّهاد في الإسلام هم الذين أخضعوا المغرب وإسبانيا (...) لأنّه من التأريخ يَدفِن الزّمن تدريجيا الحقيقة والفظائع تحتَ طبقاته المُتتالية، فلا يخلّف غير لمسة جمالٍ بصري، جَليّ، بطَعم الأسطورة والمَلحمة....

بالإضافة إلى كونها مرتبطة ببحث شخصي،فهي تجربة جمالية يرى الكاتب من خلالها العالم الغريب بمنظار ثقافي: لذلك يُشير إلى ألف ليلة وليلة والمنمنمات الفارسية، و يقارن النساء بملكة سبأ أو بلوحات ديلاكروا أو غويا. فذكريات اللوحات وقراءة الكتب القديمة تلك تسمح له بالتّعبير عن عواطفه:

عليك حقا أن تكون راسِخا في الحُلم، مدفوعا بالحنين لا أعرف لأي جمال فريد مُخلّصٍ لتأتي إلى اليمن، على أمل أن تقبض على ضحكة هاربة لكنها مطمئنة. قيل لي في عدن و أسمرة ومقديشو: "هناك سترى وجه الكتاب المقدس الأجمل...." بالكاد كنت سأنتبه لكلامهم – فالبحر الأحمر يميل إلى التّهويل أكثر من المتوسط - لو لم يُضف لي ضابط فرقة متنقلة في آيوك: تخيل نظرة راعوث، ميسالينا أو ملكة سبأ قادمة إليك من أقصى العصور تحملها عيون طفلة... "

فجئت إلى اليمن.

هي أيضا الذاكرة التوراتية ما دفع أندريه مالرو عام 1934 لتنظيم رحلة جوية رفقة طيار أمريكي: كانت تهدف للبحث عن القصر القديم لملكة سبأ. وفي وصف لرحلته، يستحضر ذكريات أدبية وفنية، ما يدرج هذه النصوص تحت شارة السحر الأدبي أكثر من قصة رحلة مُستكشف مفتون بالمملكة السبئية القديمة.فهو يُدرج أحَاجي الرّحالة الذين سبقوه إلى اليمن مُركّزا على جانب الغرابة فيها: "هذه الأراضي الأسطورية تَحشُد العجائب ".... السحر الذي تُحدثه فيه البلاد العربية كَثفته تجارب غيره من المغامرين الذين يَعرفهم. في الوقت ذاته، وبطريقة ما يحيا تجربة ملكة سبأ، لأنه مثلها يمشي على خطى شخصية آسِرة سَمع عنها: "لم يكن بوسعها فعل شيء سوى أن تتبينَ فيه خَطوَها الشَّهير نحو الوضوح" يوجز جان جرونجون Jean Grosjean في مقدمته. كبطل رومانسي، لم يكن الكاتب يبحث عن ذاته وعن المغامرة بقدر بحثه عن الآثار الحقيقية لملكة سبأ، التي بالتأكيد لن يجدها على أية حال. من المثير لللاهتمام أن نرى إلى أي مدى تقدم وجهة نظر الكاتب بالإضافة إلى التزامهِ بعصره رؤية شاملة لتأريخ العالم. مَستوَحاة من أسفار حقيقة، وليس فقط بالكتابة.

تِكرار كلمة هيكل عظمي لوصف تعرجات منظر طبيعي من الطّائرة يكشف الصبغة الحفرية التي يريد الكاتب منحها لرحلته، لكنه أيضا، يحمل معنى أكثر رمزية للتعري، ديمومة الموت وحتميته: بعد اندثار الحضارات والإنسان، تبقى العظام. هي قبل كل شيء فكرة الأسبقية التي تصفها كبناء كان يُثبّت اللّحم. ثم القبور المنتشرة في الوادي.

الكاتب المنشغل بعصره كان يرغب في التّجرد من كل هذه الحضارة: " ثلاث ساعات ونحن نراقب السماء بقلق الرُّعاة القدامَى، سيتوجّب علينا الآن أن نحيا حياة الرحالة الأوائل." الشيء ذاته بالنسبة لرومان غاري: على مَشارف صنعاء، عقب سلسلة أحداث عابرة، يَفتقد حقيبته وفيها هويته ونقوده. ولأنه واثق من إيجادها لاحقا، يحسّ الرّحالة بسلام عميق: أن تستطيع العيش بطمأنينة لزمن مَعلوم، حياة غير حياتك:

شعرت بارتياح غريب ممزوج بشيء من نشوة الاندفاع و تقريبا بالانتصار، لأني هكذا وصلت إلى أبسط أشكال الوجود وأكثرها بدائية، لشريد يجلس على قارعة الطريق. قاسمني الجنود خبزهم المفرود بطعم الطين، وقاشة الدّخن المشبعة بالسّمن. نِمتُ معهم بجانب النار، بينما كانت القطعان الليلية ورعاتهم بقبعات الخيزران تمر كخيال الظل على الطريق، مع أحمرتهم المحملة بالقات. كان القمر مكتملا، يحاكي ماجةَ غويا المستلقية على وسائدها الضبابية. شاهدت شروق الشمس على حقول الدّخن الشّاسعة التي تقع في المدرجات باتجاه الواحات، أقصى الممرّات المعتمة،بين غابات التّين.

كل شيء كان من حولي عذبا. هذه البلاد التي كان يسميها القدامى "بلاد العرب السعيدة" هي ضحكة الأرض. في المزارع ذات الأبراج العالية التي تجتاحها أذرع الصبار المتسللة والأشواك، تلك التي تشبه طواحين الهواء العملاقة بلا أجنحة. سمعت الأطفال يلعبون بنغمات الوقت المنسية هذه التي تنتقل من مزمار لآخر منذ الفتح وحيث يتزاوج التسبيح العربي مع فلامنكو غرناطة.

اليوم الثالث، تخففت من ملابسي وارتديت الفوطا،ولفّ المزارع جبيني بشريط أبيض....

لم أختبر من قبل لهذا الحد شعور أن لا أكون أحدا، أي أن أكون أخيرا أحدهم...

· أوريليا هيتزل أستاذة و باحثة في العلوم الدينية، دكتوراه في الأدب المقارن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram