اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > النقد التفاعلي: المغالطة والتورط

النقد التفاعلي: المغالطة والتورط

نشر في: 27 يناير, 2024: 09:53 م

د. نادية هناوي

حاول بعض الباحثين حلَّ فوضوية مفاهيم النقد التفاعلي، فمنهم من ميّز بين النص الالكتروني والنص الرقمي على أساس أن الأول له صلة بالنشر الالكتروني السطحي، والثاني يخضع لبرمجة دقيقة وهندسة حاسوبية،

ووجد في مفهوم الأدب التفاعلي اهتماما بالعلاقة التفاعلية بين الراصد والنص، مفضلا عليه مفهوم الأدب الرقمي لأنه برأيه أكثر ارتباطا بالوسيط الإعلامي. ومعروف أن الرقمية موجودة ضمنا في دلالة مفردة(التفاعلية) التي هي المقابل للاستجابة والتلقي ليس في النص الورقي حسب وإنما في النصوص الملقاة شفاها أيضا. وما اقتران التفاعلية بالرقمية سوى صورة منطقية للمحيط النصي الافتراضي الذي فيه تتم عملية القراءة على شاشة الحاسوب الزرقاء أيا كان نظام الحاسوب وشكله.

وما البحث عن موقع للقارئ في النقد التفاعلي سوى محاولة لجعل هذا القارئ جزءا من النظام المعرفي، لكن هذا المطمح يبقى مجرد تطلع. فلقد تساءل الناقد تيري ايغلتن عن مستقبل القراءة في شكلها الورقي وصيغتها الطباعية المادية وكيف يستطيع المرء أن يكتب في مجتمع صناعي انحطت اللغة فيه إلى مجرد أداة للعلم والتجارة والإعلان التجاري والبيروقراطية؟ ولمن سيكتب الفرد على كل حال، هل يكتب لجمهور أصابه جوع المنفعة وتعاطى عقارا مسكنا ضد الثقافة؟ هل يمكن أن يصبح العمل الأدبي فجأة سلعة اصطناعية ومادة في السوق الحرة؟

قد تكون هذه التساؤلات في بعضها محقة وبعضها الآخر متحفظة ومتخوفة، لكنها ستكون أكثر خطورة إذا ما وضعنا في أذهاننا القراءة في شكلها الرقمي وصيغتها الافتراضية التي هي انجاز من انجازات التكنولوجيا التي قلبت المفاهيم النقدية الكلاسيكية والحداثية رأسا على عقب.

إن الرؤية النقدية ما بعد الحداثية لمفهومي القراءة والقارئ تناقض الرؤية النقدية الحداثية لهما، التي ليس في فرضيات نظرياتها ما يشي بالانفتاح والتداخل. وأسهمت مستجدات فكرية وطروحات أدبية نظرية في التمهيد للتحول النقدي ما بعد الحداثي الذي أهم ملامحه الانقلاب على الثوابت.

فكانت نظريات التلقي والقراءة ونقد استجابة القارئ أحد المستجدات التي طرأت على عالم الأدب والنقد، فأحدثت ثورة كبيرة في الفكر والممارسة، وصار القارئ مركزيا ذا مستويات تتفاوت تخصصا وتتغاير فاعلية، حتى بات من الضروري على الناقد العربي أن ينحي عن ذهنه فكرة أنه المركز في العملية النقدية، مقتنعا أن التخلي عن سلطته ليس فيه استلاب لهويته ولا انتقاص من دوره، وإنما هو تطبيع قرائي يماشي العولمة ويواكب تحدياتها الفكرية.

وبهذه الرؤية الانفتاحية يستوعب الناقد مستجدات التبلور النقدي الجديد، مدركا حقيقة القراء الذين لم يعودوا استهلاكيين، وقد ارتقوا بذواتهم من مستوى التبعية إلى مستوى الفاعلية ومن القبوع في الظل إلى التوهج في الضوء، ومن الاستهلاك السلبي إلى الإنتاج وإعادة الإنتاج مجتهدين في تحصيل ذخيرة ثقافية تعينهم على التحاور مع الأدب بلا جنوح أو تصاد أو انتهاك.

والقارئ الذي يكون مطلوبا منه المشاركة والإنتاج من خلال مواجهة مدونة أدبية، حيزها افتراضي وطبيعة بنائها رقمية، انما يوصف بأنه كينونة قرائية تتلقى النص الأدبي، وتتفاعل معه بحيوية تشاركية لا لأجل فهمه وإنما لإعادة صيرورة بنائه وليدا قرائيا جديدا لقارئ هو المؤلف والناقد معا. وهذا القارئ قريب الشبه بالقارئ الكفء الذي أشار إليه روبرت شولز كقارئ مثالي يتشارك الرموز مع المؤلف وهو قادر على معالجة النص من دون إرباك أو تأخير، يبني عالما من إشارات قليلة ويملأ الفراغات ويقيم علاقات مؤقتة من دون تردد أو صعوبة ويشابه القارئ التفاعلي كذلك ما سماه والكر جبسون القارئ الصوري والقارئ المتخيل الأول له شكل القارئ الذي يوحي لنا عمله أنه المؤلف الحقيقي كرد فعل على حقب طويلة، كان فيها المؤلف مهيمنا على قرائه والثاني يشابه الاول فهو صوري أيضا ويرتدي قناعه الشخص كيما يختبر اللغة ويتخلص من فوضى الإحساس اليومي متعينا بوضوح أكبر في الأجناس الأدبية المستخدمة للإقناع مثل الإعلان والدعاية.

والقارئ التفاعلي ليس قارئا حيازيا استحواذيا يستبد بسلطته على الهوامش(المؤلف والناقد) وما ذلك الا لأنه صنيع مرحلة كوزموبولتية تؤمن بالديمقراطية ومستنهضة الهوامش ومفتتة المركز منفتحة في عملها، بحسب ما تستدعيه ضرورات التخلي عن التعالي النقدي والتنازل عن سلطة النموذج وحتميات التحول في الخطاب الثقافي (ما بين) وليس(ما بعد) ليكون التساوي أو المساواة بين الناقد والقارئ أمرا ناجزا يتقاسم فيه المركزية كلاهما من دون تمايز أما المؤلف فيظل كيانا سديميا لا سلطة له على القراء، كما لا دور له سوى دوره التاريخي كمنشئ.

وكان منظرو التفكيكية من أمثال بول دي مان وهليس ميللر قد أكدوا أن الأدب اليوم لا يحتاج إلى الناقد والسبب أن هذا الادب (مجازفة تنبعث عن القلق في أعماق النص الذي يُعري خداع المعاني واستحالة الحقيقة والمظاهر المضللة)

إن القارئ التفاعلي متلق إبداعي مولود في حاضنة ثقافية استدماجية تستوعب العالم الخارجي الذي هو واقعي مادته ورقية والعالم الداخلي الذي هو افتراضي مادته رقمية.

وإذا تملي جملة مسوغات على القارئ التفاعلي أن يمارس دوره في إعادة إنتاج المدونة الأدبية الرقمية، فذلك لأنه طرف فاعل لا يصل مرتبة الإنتاجية الرقمية صانعا نصه الوليد بنفسه؛ إلا إذا مر بمرحلة التغريب القرائي الذي يشابه ما سماه ايزر (فعل إعادة الخلق) وحدد لهذا التصور أمرين الأول ذخيرة أدبية مألوفة والثاني تقانات واستراتيجيات تجعل المألوف مقابلا اللأمالوف. وتعد الفجوات واحدة من سمات التغريب التي(تفصل بين من يمتلك المعرفة الرقمية الالكترونية الحاسوب الانتريت وأدوات استقلالها وبين من لا يمتلكها وتعوزه أدواتها) وما وقوع القارئ التفاعلي في التغريب إلا بسبب التورط الذي هو منهج قرائي يشعره ابتداءً بضآلته أمام نص مكتمل وغالب هو المدونة الأدبية الرقمية، فيحمله منتهى على بلورة رهانات قرائية تدفع بالقارئ نحو تحدي تلك المدونة والوصول إلى مرتبة إعادة بناء النص من جديد مكتشفا قدراته معتمدا على نفسه. ولا بد من التوقف المتأني إزاء هذا التورط لنرى كيف يتحقق وما سبل الخروج منه أو التغلب عليه؟

للتورط بمفهومه القرائي سمة سلبية تقوم على إحساس الذات القارئة أنها في حيرة وتضاد أمام نص متشعب وفوضوي يشبه المتاهة، فيكون القلق والتخبط ملامح تميز الاستجابة والتحفيز اللذين هما ايجابيان كاستراتيجية من استراتيجيات فعل القراءة تظهرهما الذات عند تلقي ذلك النص وقراءته، ومن هذا المنطلق يترادف مفهوم التورط الذي ميدانه رقمي مع مصطلح المغالطة القصدية الذي ميدانه ورقي الذي اجترحه المفكر الظاهراتي هيرش وطوره من بعده شولز الى المغالطة المنطقية التي عبّر عنها بمصطلح الساردية وهي تقوم(على عملية عقلية شبيهة بالمغالطة المنطقية القائلة) واندمجت هاتان المغالطتان عند الناقد الأمريكي ستانلي فش في مصطلح واحد هو مغالطة المغالطة العاطفية، وذلك في مقالته(الأدب في القارئ) (إذ أن سطرا مطبوعا أو صفحة أو كتابا إنما هو شيء موجود هناك بوضوح. شيء يمكن الإمساك به وتصويره أو طرحه جانبا. ويتبدى على أنه المستودع الوحيد لأيما قيمة ومعنى)

والمغالطة كمنهج قرائي تقوم على إحساس عاطفي بالتورط أسلوبيا بمعنى الخلط بين القصيدة ونتائجها أو بين ما هي عليه وما تفعله بناء على المؤثرات النفسية والانطباعية وبما يجعل استراتيجية التلقي مبنية عاطفيا على الشك والتوقع والاختلاف والوهم الناجم عن عدم الكفاية الذاتية والاكتمال القرائي.

ولا وجود لإنتاجية نصية رقمية جديدة ما لم تكن الذات القارئة قد مرت بمرحلة التورط في قراءة المدونة الرقمية لتنتقل منها إلى مرحلة الاستجابة التي بها يغدو القارئ قارئا آخر والمدونة نصا آخر، ولئن كانت المدونة الرقمية موضوعا متغيرا، فإن وجود قارئين لهما نفس الاستجابة من ناحية القدرات اللسانية والدلالية أمر محال، كما أن وجود نصين ببنية واحدة غير ممكن البتة.

وإذا كانت المغالطة العاطفية تقود إلى مغالطة المغالطة العاطفية، فإن فعل القراءة على مستوى التفاعل الرقمي لا يختلف عن ذلك أيضا، ومن ثم يكمن بين التورط والاستجابة تفاعلية افتراضية تنماز بالتصادم وخيبة التوقع ولا نهائية الفجوات والفراغات والتأثيرات ليكون التورط منهجا ينبغي على القارئ التفاعلي أن يحسن استعماله كي يصل إلى الاستجابة بوصفها هدفا. وقد يتخذ التورط شكلاً بين/ ذات/ نصي بطرفين هما المدونة الرقمية والقارئ التفاعلي الذي عليه أن يتعامل مع المدونة كخطاب إسنادي يقوم على محمولات أو مسندات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram