ياسين النصير
يكتسب المثقف دلالته من الـ "ثقافة"، والثقافة لا يمكن القبض على دلالتها إلّا في علاقاتها بالطبيعة والحضارة والمدنية والممارسة والأنوار، والتقدم، والزمن، والتاريخ. وهذه المفاهيم تدخل في مفهوم الحداثة، ولها تاريخ يتشكل مع تاريخ الحداثة، ومع تشكل تاريخ الكون الاجتماعي الحديث". إذن، "فكل مفهوم هو علاقة، ولكل مفهوم تكوُّن وتاريخ"
هذه عينة من التعريفات العامة للثقافة. ومع كل هذه التعريفات بقيت الثقافة صفة وليست اسمًا. ولنا أن نعدد ما شاء من الصفات الثقافية، الثقافة البدائية، الثقافة الطبيعية، الثقافة الوطنية، الثقافة الاشتراكية، الثقافة العلمية، الثقافة الأدبية، كل هذه الصفات والنعوت يعكس ضعف دورها، وقلة الاهتمام بها والسبب يعود إلى جملة عوامل نذكر منها:
إن المثقفين ليسوا طبقة ليسوا فئة متجانسة ضمن طبقة معينة، إنّما هم شرائح موجودة في كل الطبقات الاجتماعية، ففي الطبقة البرجوازية مثقفون وفي الطبقة العمالية مثقفون وفي الطبقة الرأسمالية مثقفون وهكذا تتعدد شرائح المثقفين بتعدد شرائح الطبقات الاجتماعية. لذلك لا يمكن توصيفهم بأية صفة من الصفات الطبقية.
ما يحدد العلاقة بين شرائح المثقفين هو الموقف من قضايا الإنسان، حقوق الإنسان، العدل، الاستبداد، العنف، البيئة الخ، عندئذ نجد مجموعة من شرائح المثقفين تلتقي عند هدف معين وتتبني في ضوئه موقفًا يسجل باسمهم.
ثمة تقارب واضح بين فئات المثقفين عندما تكون مصالحهم مشتركة أو متقاربة، فمثلًا نجد ثمة تقارب بين مثقفي البرجوازية الصغيرة، ومثقفي الطبقة العاملة، ونجد التقارب أيضًا بين مثقفي الرأسمالية ومثقفي الأرستقراطية والأسر الرأسمالية، ونجد التقارب بين النساء والفئات الاجتماعية الأخرى، تبعًا للمشروع النسوي أو البيئي.
بالنسبة لمجتمعنا، كانت شرائح المثقفين هي شرائح الثقافة الوطنية، بمختلف مستوياتها، فلم تكن الفواصل الطبقية في مجتمعنا حادة بحيث تعزل مثقف يساري عن الطبقة البرجوازية، وليس عندنا شرائح متميزة للمثقفين الرأسماليين أو الأرستقراطيين، وهذه تعود إلى طبيعة وتركيب المجتمع العراقي.
دور الثقافة والمعرفة التقنية
نعني بالمعرفة العلوم الإنسانية، والعلوم الإنسانية تعني التنظيم العقلاني للموارد الثقافية، وتنظيمها في مجالات يمكن استثمارها. ومن هنا ركز عصر النهضة ومن ثم الثورة الفرنسية وأخيرًا عصر التنوير على أن تكون المعرفة سلطة. لأنها بنت أسسها على مجموعة من الممارسات الفاعلة، منها: التقنية، واعتماد العقل التجريبي للانتصار على الخرافة، ومن ثم سيطرة العقل على الطبيعة، وجعلها خالية من أفعال السحر. وبفعل سلطة التقنية المعرفية، تكون المعرفة غير ملزمة بأية حدود، فهي لا "تعرف حدودًا لا في استعباد الخليقة، ولا في المسايرة تجاه سادة هذا العالم. وتستخدم المعرفة كل أغراض الاقتصاد البرجوازي في المصنع، في أرض المعركة، في المدينة، في العمل، في البيت، في العلاقات، من أجل ترسيخ مبدأ التعامل معرفيًا مع الحياة. ومع ذلك لا تكون المعرفة متاحة للجميع، فهي دائما في أمرة الذين يقومون بشيء ما، أيًا كانت أصولهم لأنّ التقنية تتمتع بشيء من الديمقراطية تتوازى مع النظام الاقتصادي الذي تتطور معه. إنّ التقنية أساس هذا العلم، أو المعرفة".
من هنا، وفي ضوء ما يحدث في العالم يعاني مفهومنا للمعرفة من قصور نظري وتطبيقي، فالمعرفة لدينا، في أفضل وجوهها هي المزاوجة بين الموروث الديني الماضوي والتقنية الغربية الحديثة، لإنتاج مجتمع توفيقي لا ينتمي كليًا للماضي حتى تتضح صورته، ولا للحاضر حتى يلتحق بالركب الحضاري. فمعرفة مثل هذه تبقى مشلولة ومتحجرة في بنية عقل عربي إسلامي متخلف، غير قادر على رسم أية سياسية لحداثة المجتمعات العربية. ومن هنا فالتوفيقية لمثل هذه المعرفة هي جزء أساسي، إن لم نقل العمود الفقري للسياسات القائمة على البعد القومي والديني والفئوي، وأخيرًا الطائفي والمحاصصاتي، هذا المنحى من الممارسات السياسية يشعر إن هو فقد القومية فقد الدين، وإن فقد الدين فقد القومية واللغة، فكيف إذا ما أصبح الفكر الديني متخليًا عن قوميته ليلتحق بقومية أخرى؟ سنجد المعرفة تتأرجح بين أنظمة متخلفة، تُرمم مؤسساتها كلما أصابها خلل في بنيتها بمشروعات ترقيعه، تتصل بالخدمات الهامشية وليس ببنية الدولة، ولا بفلسفتها. كما لا تتبنى علمًا وثقافةً ومعرفةً قائمةً على تصورات الحداثة. هذا المشكل استمر معنا منذ بداية نشوء دول الشرق الأوسط بعد معاهدة سايكس بيكو، وتعمق إلى حدّ المأساة بعد هزيمة حزيران عام 1967، ثم ترسخ بحدوث الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.. لينصب موضوع المعرفة في منطقة الشرق الأوسط ومن بينها الدول العربية كله على اعتماد ثقافة التخلف أساسًا لبنية التقنية العلمية في مجتمعاتنا. ومن يقرأ العقود الثلاثة بعد أحداث حزيران عام 1967 سيجد أن سبب هزيمة حزيران ليس ضعف السلاح ولا عديد الجيوش العربية، إنَّما في المنظومة المعرفية التي اقتيدت بها هذه المنطقة، إلى الهزيمة، وفي مقدمتها هوية الأنظمة السياسية وطبيعة تفكيرها التنموية والثقافية، مما سهل على أميركا أن تجد الذرائع -وهي كثيرة- لأن تبدأ بمشروع الشرق الأوسط الجديد، مبتدئة باحتلال بغداد عام 2003 ومن ثم تنصيب القوى الإسلامية كقوة معرفية دينية وقومية على قدرات العراق، ثم ما أصاب المنطقة من تشرذم كمحصلة معكوسة للربيع العربي، "إن المجتمع العربي ما زال يتعامل مع واقع مستجد؛ ينتمي إلى أزمنة حديثة بأدوات ووسائل تنتمي إلى أبنية ثقافية قديمة، وهذا ما يؤول بالفعل الاجتماعي العربي إلى أن ينتهي إلى نتائج غير التي يخطط إليها" فجمود الأبنية العربية الثقافية والمعرفية يقود دولنا إلى اعتماد خطاب ثقافي متخلف وغير قادر على تأسيس رؤية معرفية تنسجم وحجم المشكلات الاجتماعية التي نعانيها.
وخلص عدد من الباحثين كما يشخصّهم الدكتور سهيل الحبيب، من بينهم: عبد الله العروي، محمد اركون، محمد عابد الجابري، خليل احمد خليل، وأدونيس، إلى "أن الثقافة هي المحدد لتخلف المجتمعات العربية وتقدمها، الأساس الحاسم في اكتساب الجماعات البشرية القدرة على الفعل الاجتماعي المثمر وكما يرى محمد عابد الجابري، فإذا كانت التنمية هي “العلم حين يصبح ثقافة” فإنَّ التخلف سيكون هو "العلم حين ينفصل عن الثقافة" أو هو "ثقافة حين لا يؤسسها علم". أن النهضة العربية المزعومة "أعادت للماضي"، وليس للمستقبل، لأن المعرفة نأت عن العلم واتجهت صوب المقولات الدينية الماضوية التي وجدت أساسًا لإصلاح البشر من الشرور الاجتماعية والكونية، أي بناء السلم الداخلي للإنسان، وليس لبناء مجتمعات حديثة. وهكذا "فإن الثورات المسماة على التوالي(عربية) ثم (اشتراكية) ثم (إسلامية) قد فشلت كلها بطريقة دراماتيكية (مفجعة)، لأنها تفتقر إلى نمط في الفعل التاريخي مبني على عقل تحليلي ونقدي وعلمي متحرر- كما في أوروبا- من المسلمات الدوغمائية"..
· جزء من دراسة طويلة للاستاذ ياسين النصير بعنوان " الثقافة – المعرفة – السلطة " ننشر هذا الفصل لاهميته.