لطفية الدليمي
قيل في توصيف الاشتراكية والرأسمالية - من البوابة الاخلاقية – أنّ الاشتراكية (الماركسية بمسمّى آخر) تخاطبُ الذرى الاخلاقية في الانسان (الايثارية والتشارك)؛ أما الرأسمالية فتخاطبُ غرائزه الدنيا (التنافسية والاستئثار والصراع).
يؤكّد مناصرو الرأسمالية أنّ إنكار الغرائز البشرية ليس بالمقاربة المناسبة للتعامل مع كتل بشرية هائلة. ماتضعُهُ على مائدتك من طعام يحكم سلوكك ورؤيتك في الحياة، وعندما تجوع تتساقط كل المثاليات الاخلاقية. لايمكن تحييد الغرائز البشرية؛ لكن يمكن إشباعها ومن ثمّ تلطيفها وتهذيبها. الاشباع يأتي قبل التلطيف، والاتكاء على النبل البشري وحده ليس سلوكاً مأمون الجوانب.
حُجّتان وظّفتهما الرأسمالية في معركتها الآيديولوجية مع الاشتراكية: الاشتراكية تلغي سطوة الغرائز البشرية وتغيّبُ الدور الفاعل للانسان، وهذا مايؤدّي تلقائياً إلى تمركز السلطة والثروة بيد الدولة التي ستنتهي بالضرورة غولاً متوحشاً (ليفياثان) يأكل الجميع. هذا الغول صار يوصف لاحقاً بالدولة الشمولية(التوتاليتارية).
تعالوا نتساءل: إلامَ إنتهى هذا المسرح الصراعي؟ إنتهى إلى إقطاعية رقمية Digital Feudalism متمثلة بست شركات رقمية عملاقة (الاخوات الست على غرار الاخوات النفطية السبع في عقود سابقة). هذه الاقطاعيات في أقلّ توصيف هي أدهى وأكثر سطوة من أية دولة شمولية حقيقية أو متصوّرة. يكفي القول أنّ عصر مابعد الحقيقة Post- truth صار أحد مخرجات هذه الاقطاعية الرقمية. لم تعد الآيديولوجيا الصرفة تشتغل بمعزل عن التقنية. الحقّ أنّ التقنيات صارت السلاح الامضى الذي يشكّلُ المتبنيات الآيديولوجية. هناك أحاديث وكتابات ومقالات كثيرة عن أنّ التقنية الرقمية باتت تؤذِنُ بانطفاء الرأسمالية الكلاسيكية والنيوليبرالية معاً في اتجاه تعزيز الاقطاعيات الرقمية. الامر ببساطة: أمازون وغوغل ومايكروسوفت وآبل وتسلا هي عناوين إقطاعيات عالمنا الجديد، وجيف بيزوس وبل غيتس وايلون ماسك هم الاقطاعيون الجدد (لوردات العصر الرقمي لو شئت).
هذه الاقطاعيات تخالف روح الرأسمالية في الصميم. الاقتصاديات الرأسمالية عرفت معنى وأهمية الحفاظ على روح المنافسة ومكافحة الاحتكار الاحادي؛ لذا لم نشهد في الرأسمالية بكلّ ألوانها إحتكاراً واحداً سواء في الصناعة النفطية أو السيارات أو الآلات الكهربائية المنزلية. دوماً كان هناك شيفروليه وفورد وكرايسلر في أمريكا، وتويوتا ونيسان وميتسوبيشي في اليابان، ومرسيدس وفولكسواغن وأوبل في ألمانيا. هذا الامر لم يعد يحصل في الاقطاعيات الرقمية: ماأن تطلّ شركةٌ ناشئة واعدة برأسها حتى يبادر الاقطاعيون الرقميون لشرائها قبل أن تتغوّل وتصير لها أجنحة قوية. قصقصة الاجنحة منذ وقت مبكّر أفضل الوسائل في الحفاظ على السطوة الرقمية.
لنتّخذ من منصّة (غود ريدز Goodreads) مثالاً. تأسّس هذا الموقع عام 2006 ليكون مثالاً للديمقراطية الرقمية التي يستطيع منها قرّاء مميزون المشاركة بآرائهم الهادئة والهادفة بشأن قراءات منتخبة لكتب يرونها جيّدة. لم يكن الموقع يهدف للربح، وكانت كتابات المشاركين فيه منطقية معقولة. إختلف الامر جذرياً مع عام 2013 عندما وضعت شركة أمازون يدها على هذا الموقع. تغوّل كثيراً وتحوّل منصّة للإشهار أو الدفن!!. صار باحة مفتوحة بلا تدقيق أو اعتبارات إبداعية. تخيلْ مثلاً أنّ (س) من البشر أنشأ له عشرات الحسابات المزيفة ثمّ راح يرفع شأن كتاب ما، ويقلّلُ من شأن كتاب آخر، وستساند آراءَ (س) بضعُ نجمات لها وقعٌ نفسي خطير أكبر ممّا نتوقع. لو تشارك خمسمائة أو ألف في وضع علامة (نجمة واحدة) على كتاب عظيم فسيسقط لامحالة. هذه هي بعضُ معالم اللعب في الاقطاعيات الرقمية. أليس السيل الهادر حاصل تجميع آلاف الروافد الصغيرة؟
إليزابيث غلبرت Elizabeth Gilbert واحدةٌ من أحبّ الروائيات المعاصرات إلى قلبي، وأظنّ أن روايتها المترجمة (توقيعه على الاشياء كلها) رواية عظيمة. كتبت هذه الروائية مؤخراً عن حملة تسقيطية لروايتها الاخيرة) الغابة الثلجية The Snow Forest) كان موقع (غود ريدز) رأس الحربة فيها. كلّ هذا جرى لمجرّد أنّ غلبرت إختارت غابة روسية مسرحاً لوقائع روايتها. الاقطاعية الرقمية الامازونية ممثلة بالفارس الهمام (غود ريدز) تريد طرد كلّ إشارة روسية من عالم النشر الادبي. لن نعلم بالتأكيد ماالذي لجأت إليه هذه الاقطاعية من أفانين اللعب لتسقيط رواية غلبرت.
على صعيد شخصي كنت قبل سنوات بعيدة أتابع موقع (غود ريدز) بين حين وآخر لاسيما وأنّ كتبي المنشورة لها مواقعها فيه. بدأتُ أتلمّسُ يوماً بعد آخر مجانية وتهافت التعليقات. كنتُ قبلاً أقرأ تعليقات محترمة وآراء مدعمة بشواهد موثقة. اليوم صار الموقع منصّة آراء كيفية واعتباطية لم يكلف الكاتب نفسه سوى اختصارها بكلمات معدودات. تقرأ تعليقات من نوع (الترجمة لابأس بها). طيب. من أنت أيها المعلّق؟ ماجهدك الترجمي؟ ماالذي يمنح تعليقاتك مصداقية؟ عندما تقول: الترجمة لابأس بها فأنت تقصد وجود مثالب مشخّصة لديك. أليس من المروءة أن تدلّ المترجم على بعضها؟ إلقاء الكلام على عواهنه (وكأنه قرار محكمة لاتقبل الاستئناف) مثلبة أخلاقية ياصديق. هذا إذا افترضنا حسن نياتك أولاً؛ أما النيات السيئة فتلك لها كلام آخر وتوصيف آخر. آخرون يتقصّدون الاساءة لخلل نفسي أو ذهاني فيهم. يكتبون تعليقات على شاكلة (أمنحُ الكاتب نجمة واحدة لتعبه في العمل). لاحظوا النبرة الاستعلائية في التعليق. هذا تعليق شخص لم يعمل في حياته ولايصلح لتقدير من يعملون. هل تحسب أنّ (غودريدز) منصّة أولمب التي يتربّعُ على عرشَها (زيوس) معاصر، كبير آلهة الادب والفكر، ليطلق أحكامه المجانية منها؟
لو أردتُ القراءة المكثفة والدقيقة والرصينة بشأن كتاب ما فسألجأ أولاً إلى مواقع المراجعات العظيمة للكتب: النيويوركر أولاً لو أمكن هذا، ثم تأتي مراجعات لندن أو نيويورك أو لوس أنجلس للكتب، فضلاً عن مراجعات ممتازة في صحف مثل الغارديان أو نيويورك تايمز أو سواها. هذه المراجعات تتراوح بين خمسة آلاف كلمة في النيويوركر، وثلاثة آلاف كلمة في مراجعات الكتب المذكورة، وألف وخمسمائة كلمة – كمعدّل وسطي - في الصحف. هناك تقرأ باستفاضة ودقّة ونزاهة موضوعات كتبها أناسٌ متمرّسون لم يحسبوا أنفسهم يوماً آلهة في عرش زيوس الامازوني.
الكثير ممّا نقرأ في المواقع الرقمية هذر صريح. المواقع الرقمية صارت مصداقاً لما كنّا نسمّيه (عريضة بلا طابع) كنايةً عن المشاعية والمجانية والاستسهال من غير توقّع عواقب مادية أو اعتبارية. المهم في الامر أن لانمكّن الآراء المجانية الصغيرة من أن تتحوّل – بالتراكم – إلى بوصلة تحدّدُ معالم ذائقتنا الادبية، وقبل هذا ضميرنا الابداعي.