اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > عِمَارَة قُبَّةِ اَلصَّلِيبِيَّةِ اَلْعَبَّاسِيَّةِ: جَدَلُ اَلْمَهَامِّ اَلْوَظِيفِيَّةِ

عِمَارَة قُبَّةِ اَلصَّلِيبِيَّةِ اَلْعَبَّاسِيَّةِ: جَدَلُ اَلْمَهَامِّ اَلْوَظِيفِيَّةِ

نشر في: 4 فبراير, 2024: 09:14 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

ثمة سجال يجري اليوم في الاوساط العلمية المهتمة في عمارة سامراء وحفرياتها، حول "وظيفة" (قبة الصليبية)، وعن "نوعية" نموذجها التصميمي. ادناه نتناول هذة الاشكالية باختصار حول "جدل المهام الوظيفية". في عمارة قبة الصليبية.

يثير مبنى "قبة الصليبية" الواقعة في الجانب الغربي من نهر دجلة في سامراء كثيرا من الاهتمام والجدل حول وظيفية هذا المبنى الفريد. ومما يزيد ذلك الجدل تناقضاً عدم ذكر المؤرخين والبلدانيين المسلمين لطبيعة اشغال هذا المبنى بشكل صريح بل وغالبا ماكانت تلك المقولات متضاربة ومتعارضة، الامر الذي افضى الى رواج طروحات متعددة عن نوعية نلك "الوظيفة" التى يؤديها هذا الصرح المميز.

ليست مهمتنا، هنا، سرد وتناول كل تلك الاقوال التى تعاطت مع ثيمة هذة الاشكالية، لكننا سوف نتوقف على بعضها كنماذج رؤى لتعليل مهام ووظيفة ذلك المبنى السامرائي ليتسنى لنا، في الاخير، الدنو من حقيقة عمل ودور ووظيفة هذا المبنى المثير لمثل هذا الجدل الواسع. ففي كتابه "سامراء" يشير د. صالح احمد العلي من ان ".. الخلفاء العباسيين في سامراء لم يُعْنُوا بتشييد مدافن فخمة لهم، وذكرت المصادر أماكن دفن الخلفاء في سامراء، فالمعتصم دفن في الجوسق حيث توفي في قصره المعروف بالخاقاني، والمتوكل دفن في قصره بالجعفرية، ولكن لم تقم على مدافنهم مشيدات. ويذكر المسعودي أن المنتصر أول خلفاء بني العباس أظهر قبره، ولكن لم يذكر مكان هذا القبر او مظاهر إظهاره. ويذكر المسعودي أن المعتز دفن في داره، اما الطبري فيقول إن المعتز دفن مع المنتصر في ناحية قصر الصوامع.." (سامراء: دراسة في النشأة..، ص. 136). اما الدكتور عبد العزيز حميد صالح، فيكتب في مؤلفه "سامراء: آثارها وزخارفها الجصية" عن هذة الاشكالية ما يلي ".. وفي الوقت الذي لا ندري على وجه اليقين سبب بناء هذا الصرح بعيدا عن مركز المدينة.. كما لا علم لنا سبب تلك التسمية، غير ان من الواضح أنها تسمية حديثة أطلقها عليها أهل سامراء الحالية. فان بعض سكان سامراء في وقتنا الحاضر يرون إنها سميت بـ (القبة الصليبية) لان مداخلها الاربعة متقابلة اي متصالبة غير ان غالبية المعنيين بالآثار الإسلامية من المحدثين يرون أن البناء قد شيد ليكون ضريحا او قبة فوق قبر الخليفة المنتصر بالله الذي كان قد توفي في شهر ربيع الثاني من سنة 238 هجرية (862 م.)، وذلك تلبية لرغبة والدته. وربما ان الخليفتين المعتز بالله (ت 255 هـ)، والمهتدى بالله (256 هـ)، قد دفنا في مقبرة المنتصر نفسها والتى عرفت آنذاك باسم (قصر الصوامع). غير ان مثل هذا القول لم يرد صراحة عند اي من قدماء المؤرخين المسلمين غير الطبري. وكان هرتسفيلد قد قام ببعض التنقيبات في هذا الموقع ووجد هياكل عظمية لثلاثة اشخاص مدفنونين فيه، مما رجح عنده صحة ما افادنا به الطبري. (عبد العزيز حميد، سامراء ص. 166- 167).

وفي الكتاب الصادر عن منشورات وزارة الثقافة والاعلام العراقية سنة 1982، بعنوان: العمارات العربية الاسلامية في العراق، ج. الثاني، يكتب المؤلفون (عيسى سلمان وآخرون..) عن "القبة الصليبية" ما يلي".. تتبوأ هذة التربة مكانة مهمة وخاصة ليس بين مشاهد العراق حسب، بل بين مشاهد العالم الاسلامي أجمع. وتنبع هذة المكانة من كون القبة الصليبية هي اقدم المشاهد الشاخصة الى الآن، وان تخطيطيها وتصميميها جديد تماما، وقد ساد والنتشر في العراق وظل مميزا لهذا النوع من الابنية ولفترات طويلة بعد بناء القبة الصليبية.". وفي مكان آخر من ذلك الكتاب يسرد مؤلفو الكتاب قولهم "يقوم البناء على مرتفع طبيعي او تل في الجانب الغربي من دجلة الى الجنوب من قصر العاشق. ويطل مثل العاشق على حوض النهر من منطقة تقابل الجوسق الخاقاني تقريباً. والمعروف إن البناء يضم رفات ثلاثة من الخلفاء العباسيين الذين حكموا في سر من رأى، وهم المنتصر بالله المتوفي عام 248 هـ. (862 م.)، والمعتز بالله المتوفي عام 255 هـ. (868 م.)، والمهتدي المتوفي عام 256 هـ. (869 م.). وليس هناك شك في ان القبة الصليبية قد بنيت عام 248 هـ. بأمر من أم الخليفة المنتصر بالله. ويقال ان التسمية جاءت من ان هذة السيدة كانت صليبية قبل ان يتزوجها خليفة المسلمين. ولكن هذا الرأي غير مقبول من عدد كبير من المتخصصين في فنون العمارة الاسلامية، والذين يعتقدون ان التسمية جاءت من شكل تخطيط وتصميم البناء، لانه على شكل صليب، اذا ما اخذ ترتيب الابواب بعين الاعتبار..". (العمارات العربية الاسلامية، ج.2، ص68).

وثمة اقوال اخرى تعود الى مختصيين عديدين في الاثار وفي العمارة الاسلامية يرى بعضها بان مبنى "قبة الصليبية" ما هو الا ضريحا والاخرى تنفي ذلك، لكن الاخيرين في الغالب الاعم لم يقدموا شيئا ملموسا عن طبيعة وظيفة ذلك المبنى. وما اوردناه، في اعلاه، من طروحات لدى البعض من تلك الاراء نراه امراً وافياً وكفيلا بان يمنح القارئ تصوراً كاملا عن نوعية الاراء المتناقضة حول نوعية اشغال ووظيفة قبة الصليبية. الا ان ما ذكره الباحث الانكليزي المختص في الشأن السامرائي "أليستر نورثيج" Alastair Northedge في كتابه القيّم الذي اشرنا اليه مرارا في متن هذا الكتاب وهو "طوبغرافية سامراء التاريخية" The Historical Topography of Samarra نراه امراً مثيراً ولافتاً ومن دون ريب امراً مهماً. فهو ينفي ان تكون وظيفية هذا المبنى كـ "ضريح"، ويقترح مهام آخرى لها، اعتبرها، شخصيا، جريئة ومفاجئة، بيد انها تبقى مثيرة للجدال، وهي بالتالي تستحق مناظرتها وتتطلب مناقشتها بامعان. فهو يرى ان امكانية بواعث بناء قبة الصليبية يعود لاسباب لا علاقة لها بموضوعة الاضرحة او ما شابهها؛ بقدر ما هي ثيمة بنائية يفترض ان تلبي احد أهداف متطلبات "الدرس الاسلامي" المعنون والموجه الى اناس معتنقي الدين الاسلامي حديثاً!

في لقائي الشخصي مع "أليستر نورثيج" مؤخراً اثناء مشاركتنا معاً في اعمال مؤتمر مهني عام 2023، تحدثت معه بالطبع عن تلك المقاربة المثيرة حول طبيعة وظيفة مبنى "قبة الصليبية" والتى وردت في كتابه انف الذكر. واصغيت الى مبرراته الاساسية التى انطلق منها، بكون لا احد، وفق ما يرى، من المؤرخين المسلمين وقتها اشار اشارة صريحة ومقنعة عن جدوى وجود هذا المبنى في الهيئة التى اتى بها، وفي الموقع الذي يقف شامخا فيه، والذي لا يعرف احد طبيعة عمله ووظيفته! وفي محاولة منه لدراسة مقترباته وما كان يحيط بذلك المبنى من منشاءات، هي التى لطالما أَغْفَلَت من قبل العديد من الدارسين، عاملاً بعض المقارنات بين مبنى "القبة" وغيرها من المباني الاسلامية السابقة عليها، والتى عبرها توصل الباحث الانكليزي الى تلك النتيجة الجريئة التى وردت في الكتاب.

واود قبل ان ابدى رأيي الشخصي بهذة الاشكالية المهنية، ان أُذكّر، اولاً، بما اتي به "أليستر نورثيج" من اراء لاطروحة اراها مثيرة، نقلا عن ذلك الكتاب. فهو ابتداءً ينوه بما امسى معروفا ويذكّر بمقولات هرتسفيلد التى تروي بان مبنى قبة الصليبية، وفقا للطبري، هو المكان الذي دفن به الخليفة المنتصر مع خليفتين أخريين هما المعتز بالله والمهتدى. كما يشير الى حدث وجود جثامين ثلاثة عزاها الى اولئك الخلفاء العباسيين، (لاحقا تبين بانها تعود الى فترة تاريخية متأخرة). كما يذكر بان بعض الدارسين وافقوا هرتسفيلد في رأيه هذا (كريزويل من بينهم) في حين اخرين انتابهم شك في صدقية تلك الاطروحة (اولغ غربار من بينهم). ويستشهد "نورثيدج" بان "الخطيب البغدادي"، و "أحمد بن أعثم الكوفي" كلاهما يذكرا بان المنتصر كما المعتز والمهتدي قد تم دفنهم في الجوسق، مثلما دفن المعتصم في الجوسق ايضا، والواثق في الهاروني، والمتوكل في الجعفري.

ويتساءل " أليستر " في نصه، "اذا لم تكن "القبة" ضريحاً، فماذا، اذاً، كانت؟ "، ويحيب عن هذا التساؤل ذاكراً " احد الاحتمالات انها كانت سرادقا "جناحاً" للتمتع في رؤية المنظر المحيط، كما كان الامر شائعا في نماذج مبنية تعود الى العهد الاموي. والاحتمال الثاني له صلة بنص مستل من المقدسي في كتابه "احسن التقاسيم". وخلاصة ذلك، بان الخليفة العباسي امر بتشييد هذا المبنى من اجل تعليم الجنود الاتراك القادمين من بلاد ما وراء النهر فرائض دينهم الجديد، وعليه تم بناء ذلك المبنى "القبة" تشبيها بالكعبة في مكة، لتعليمهم فروض الحج فيما اذا قدر لهم زيارة مكة. ويشير الباحث لاحقاً بان ما اورده "المقدسي" في كتابه قوبل من قبل كثر من المؤرخين المسلمين بالرفض والانكار، باعتبارها واقعة غير محتملة الحدوث، ذلك لان مقام "الكعبة" يتسم بالفرادة ولا يمكن تكراره. والمقدسي نفسه حاول ان يتنصل من تلك الرواية، زاعماً بانه رأي "القبة" في الافق البعيد من الجانب الشرقي لمدينة سر من رأى، وعندما استفسر عما تكون، تلقى الرد سريعاً بمثل هذة القصة.

كما يشير أليستر نورثيج" في كتابه بان "الافتراءات الناجحة ليست خاطئة تماماً، وعادة ما تحتوي على عنصر الحقيقة فيها". ويقول ايضا ".. من الممكن ان يكون المعتصم (او غيره من الخلفاء)، اراد فعلا غرس المعرفة بشعائر الاسلام ببناء نموذج للكعبة ليقوم الاتراك بالتدريب على مراسم الحج..". ثم يصل الى قناعة بان "..الادلة الاثرية تفضل هذا التفسير، لان المنصة الخارجية والمنحدرات المكتشفة حديثاً تتحدث اكثر عن استقبال عدد كبير من الناس لهذة المناسبات، اكثر من الزائر العرضي للضريح او الحفلات الصغيرة في الجناح". ويصل، اخيراً الى نتيجة مفادها ".. لا يمكن اثبات اية واحدة من الفرضتيتين في الحالة الراهنة للادلة. لكن المعلومات المتاحة تفضل بالتأكيد الفرضية الثانية: اي انها كانت نموذجا للكعبة!". The Historical Topography of Samarra, pp. 230- 233). بمعنى آخر، ان "قبة الصليبية" وفق رأي "أليستر نورثيج" هي "نموذج" Maquette شُيّد من اجل ذلك الدرس الديني والتوعية بمضمونه. وهي الخلاصة التى كررها، اثناء حديثه معي في ذلك اللقاء، مبدياً تمسكه بها لحين اثبات ما يدحضها!

ومرة اخرى يتعين القول بان الاراء المختلفة التى اوردناها هنا، هي في معنى من المعاني، بمثابة إثراء فكري للموضوعة المعمارية التى نحن بصددها، وبالمحصلة فهو امر يغبطني كثيرا لجهة ان ذلك المبنى السامرائي الذي يحتل مكانة بارزة في المنتج المعماري السامرائي، بمقدوره ان يثير مثل تلك الاراء ويحضى باهتمام عالٍ واجتهاد فكري من قبل مختلف دارسيه باثنياتهم المختلفة. ولهذا فان ما سوف اذكره بعد قليل، يتوخى اولاً واخيراً الحرص على ادامة الحوار.

ولنبدأ من إشكالية "المدفون". فاختلاف اقوال المؤرخين المسلمين العديدين حول مكان دفن الخليفة "المنتصر بالله" (هو الذي ارتبط اسمه كباعث اساسي لظهور "القبة")، ليس امراً نادر الوقوع في ادبيات السرد التاريخي، بحيث يكتسب قول ما من تلك الاقوال احقية حكر الحقيقة لنفسه. فمثلما ثمة "احتمال" بامكانية خطأ قول "المسعودي" القائل بدفن المنتصر في ذلك المكان، عندما اشار بان "المنتصر هو أول خليفة من بنى العباس فيما قيل عرف قبره، وبذلك أن امه طلبت إظهار قبره.."؛ هتاك افتراض، ايضاً، لارجحية "خطأ" الأخرين النافين لهذة الواقعة! هذا جانب، ومن جانب آخر، فأن تعدد "أمكنة" الدفن هي حالة تكاد تكون طبيعية وشائعة في تلك الازمنة. لنتذكر حالة دفن الخليفة المنصور، على سبيل المثال، اذ لم يكن معلوما في اي مكان محدد دفن رغم الافصاح عن امكنة دفنه. وقد اشرنا سابقاً في متن هذة الدراسة الى ما اورده الطبري ذاته عندما كتب ".. فان المنصور لما توفي حفر له مائة قبر ودفن في كلها، لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه، ثم قال، وهكذا قبور خلفاء بني العباس لا يعرف لأحدهم قبر". وهذا يدلل من ان اختلاف التسميات في امكنة الدفن لا يعني بالضرورة عدم الدفن في احداها.

وفيما يخص تقارب الصيغة <الهيئآتية> بين "قبة الصليبية" السامرائية وبين "قبة الصخرة" (72 هـ, 691 م.) في القدس، فيتعين ان لا تحصر فقط ضمن ادعاءات ومزاعم لتطابق مهام وظيفية (قد لا تكون واقعية بالمرة)، وإنما ينبغي رؤية ذلك التقارب ضمن مفهوم "تراكم الخبر"، الذي اتكأ عليه جهد المعمار السامرائي في اجتراحه لمبناه، والذي اتينا على ذكره في نصنا حول معمارية "قبة الصليبية".

يبقى الدليل الاهم، في أعتقادنا، لباعث بناء "قبة الصليبية" كـ "ضريح"، والذي غَفَل (هل كان ذلك متعمداً؟!) عنه العديد من الدارسين (الذين ينكرون ان تكون "القبة" كضريح)، يبقى متمظهراً في ان جمهوراً واسعاً في سامراء، وفي مناطق جغرافية بعيدة، بضمنهم المهنيين (..المعماريين على وجه الخصوص!) وَعَوْا، وَفَهِمُوا وَعلموا بان ذلك المبنى الفريد القائم لوحده عند الضفة اليمنى من نهر دجلة، ما هو الا. .ضريح! (حتى ولو لم يدفن فيه الخليفة المنتصر بالله)، كما أدركوا وَاسْتَوْعَبُوا بان ظهور "هيئته" الجديدة بشكلها المميز والمبتكر هي اضافة معتبرة الى ذخيرة تنويعات منتج العمارة الإسلامية. وأن منتج "نوعها التصميمي" الفريد، وهو هنا: "الضريح"، سيضحى لاحقاً من روائع امثلة منجزات تلك العمارة وفخرها التصميمي مثلما سيكون نموذجاً فاخرا في منتج العمارة العالمية..ابضا!. ولعل واقعة بناء "ضريح اسماعيل الساماني" (892 – 907) في بخارى ببلاد ما رواء النهر، تبين على قدر عال من الوضوح تأثير عمارة قبة الصليبية السامرائية على منتج معمار الضريح الساماني. ولقد اتينا على ذكر هذا في كتابنا: "العمارة الاسلامية في بلاد ما وراء النهر" الصادر في عمان 2018، حيث اشرنا الى مايلي: ".. يتعين ان لا ننسى أهمية الحدث المجترح في سامراء وجدته و"جديده". وما اثار ظهوره من جدل ونقاش واسعين إن كان لناحية موضوعة المبنى، أم لجهة تمثلها معمارياً. ينبغي ايضاً الاشارة الى قصر الفترة الزمنية الفاصلة ما بين ظهور "الصليبية" (862 م.) وبدء بناء "المشهد الساماني" (892 م.)؛ ما يبقي فعل "الحدث" السامرائي طازجاً ومستجداً ومؤثراً في اوساط ثقافية ومعمارية على وجه الخصوص. كما ينبغي التذكير، اخيراً، الى الاحترام والتبجيل والموالاة التى يكنها افراد العائلة الحاكمة السامانية ونخبهم للخلافة العباسية وحكامها، وما نجم عنه من نزوع مشروع في محاكاتهم والاقتداء بهم وبطرق عيشهم وباساليب عمارتهم، كتعبير عن ذلك الانتماء وعن تلك الموالاة. كل تلك العوامل وغيرها كانت حاضرة في "ذهن" معمار بلاد ما وراء النهر، عندما شرع في "تصميم" المشهد الساماني وتنفيذ افكاره المعمارية. ولعل الاشارة الذكية من "ارشيبالد كرزويل" ( 1879 – 1984) K. A. C. Creswell، أحد دارسي العمارة الاسلامية المعروفين، في كتابه "العمارة الاسلامية المبكرة" عن وجود "صلة" معمارية ما بين المبنى في سامراء والضريح الساماني في بخارى، تضفي مصداقية اخرى الى ما ذهبنا اليه عن وجود مثل تلك الرابطة المعمارية بين المبنيين. " (خالد السلطاني، العمارة الاسلامية في بلاد ما وراء النهر، ص. 89).

كما يمكن الذهاب ايضا الى مثال ضريح "شاه فيروز"، في سيرجان/ كرمان - ايران، كما اشرنا في متن الدراسة عن قبة الصليبية، ".. من بين امثلة عديدة لحالات تأثير المبنى السامرائي ونفوذه القوي في صياغة الحلول التصميمية لتلك المباني المبهرة المنتشرة في انحاء مختلفة من العالم الاسلامي". ففي ذلك المثال يظهر بوضوح محاولة المعمار من سيرجان "نسخ" <اميج> القبة الصليبية بشكلها المثمن وقبتها وابوابها وتوظيفها في مبناه الذي عدّ من اوائل مباني الاضرحة الاسلامية في بلاد فارس.

وباختصار شديد، يمكننا، بعد كل ما أتينا به من نقاش، الوصول الى قناعة بان المبنى المشيد في الجهة الغربية من نهر دجلة في سامراء هو مبنى لـ "ضريح"، كما ذكر "المسعودي"، وكما ما رافق ذلك من احداث تجلّت في افتراض صدقية طلب ام الخليفة (ذات الشخصية الخاصة بكونها "مسيحية" سابقة) بإظهار قبر ابنها الشاب المغدور للملأ. وبالتالي فان ذلك "الحدث السامرائي" يُعّد من اوائل النماذج المعروفة للاضرحة الاسلامية (ان لم يكن اولها). كما انه اضاف تنويعا "تابولوجيا" Typology جديدا لمنتج العمارة الاسلامية. ومن هنا تنبع في اعتقادنا، وكما اشرنا، للتو، في متن هذة الدراسة بان عمارة "قبة الصليبية" تكمن: ".. في أهميتها التى نراها مزدوجة: مرة، لانها مهمة لذاتها، كحدث تصميمي مرموق، ومرة آخرى، لناحية ارتقاء نموذجها التصميمي، ليكون لاحقا مصدرا مؤثراً ومرجعية معمارية للكثير من "الشواهد" المبنية في منتج العمارة الاسلامية، التى لطالما قيًمًت من قبل كثيرين بكونها من روائع العمارة العالمية!..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram