حيدر المحسن
كان السومريون يطلقون على شطّ العرب (وكذلك الخليج العربي) تسمية شعرية: البحر الأسفل أو بحر الشمس الطالعة. في ذلك اليوم البعيد كلّ شيء كان من حولنا مُبهجا، أنا وأنتِ وأختكِ (همسه)، جالسون على مصطبة في كورنيش شطّ العرب، بحركته وصخبه وضياء الشمس.كانت السفينة تعبر مياه الشطّ الساطعة،وقفزتُ أنا من مكاني على المصطبة وأغلقتُ عينيك بيديّ، ورحت أضغط عليهما بقوّة، والمركب العظيم كان يغادرنا، ومراجله تلهث.
سفن بحرية تعبر النهر، وسفن نهرية تعبر البحر، هي البصرة في ذلك الزمان، عروس البلدان وقِبلة الأنظار في كلّ مكان.ومرّ رجلُ في الأثناء. قال لي:
- دعها يا ابني ترى السفينة تمخرفي البحر.
لم أجبه بشيء. هو لا يعرف بالطبع أني لم أكن أريد لناظريك الجميلين أن يشهدا الرحيل العظيم، وسماءه الفارغة الكئيبة، وهواءه الميّت، وتنفّس مياهه الكئيب. إن شيئا ما في داخلنا ينكسرونحن نرى السفينة تبتعد. إلى أين ترتحل، ولماذا نحن ماكثون هنا، إذا كان السفين يبحر، قاصدا اللجّة؟ ومن أين لعابر السبيل إدراك كلّ هذا، ومن أين لك، وأنت الطفلة التي تشبهين عصفورة في ذلك الزمان، التوصل إليه؟
كانت المدينة، أي البصرة، هي التي ترتحل، والجهة هي الحرب. حلّت علينا فجأة، وكلّ شيء صار له طعم الرماد. غادرنا أبوكِ (حسين علوان الراشد) دون توديع أو رسالة أو سلام، تعاون المرض مع الحرب في الإجهاز عليه.كانت سنين عمره مكتوبة بطريقة الإتيان على الرثاثة والفجاجة ورخص الروح الذي لا يلغيه كلّ مال الدنيا. لهذا السبب، والحرب دائرة والحزب الحاكم آنذاك يسمّم الهواء من حوله، صارت حياته قصيرة،وكان هذا الرحيل الأول في حياة سالي، استسلمت إلى فقدانه بلا مقاومة ولاتردّد.
كبرت العصفورة لأننا نكبر جميعا كلّ يوم، وهاهي الآن شابّة ذكيّة وعذبة في ما تقول وتفعل، حتى اللثغة في لسانها زادتها حلاوة على حلاوة، وفي لسان المرأة كلّ شيء وأيّ شيء، فكيف إذا كانت سلّة زهر تمشي وتأكل واسمها سالي؟! خطبها شابّ يشبهها في الطول وكرم النسب والدماثة واللطف؛ (أسامة فاضل القاضي). ابنة العمارة – البصرة صارت من نصيب البغدادي الأعظمي (نسبة إلى بلدة الأعظميّة)، وبدل السلّة الواحدة من الورود صارت في العائلة سلّتان.
من بين الصور التي احتفظ بها في مكتبي صورة يجلس فيها الزوجان في الصف الأمامي، وأضواء الصالة مشعّة عند الجانبين، وهناك ثريّا في السقف. الماضي يندسّ بالأشياء كالروح. أكاد أسمع صياح الأولاد في الغرفة المجاورة،وموسيقى فرح وهلاهل وتباشير سعادة. لم يكن أمام المصوّر سوى أن يجعل البقية غير مرئيين، كي تظهر في الصورة حديقة الزهور وحدها، وحدها فحسب، تشعّ في الجوّ ألوانا وألحانا وبراءة.
ولكن هيهات، فالحياة كومضة ليلة، وعليّ أن أبدأ هذا الفصل بكلام العقل والفلسفة، لا الشّعر والوجدان. يقول سينيكا: "عندما يفقد المرء شخصا عزيزا لا يصحّ أن تكون عيناه جافتين أو متدفقتين. الدموع، أجل، يجب أن توجد، ولكن ليس الحسرة". انتقل أسامة القاضي إلى الدار الآخرة قبل أسبوع في حادث سير على الطريق بين بغداد والناصريّة. كيف يكون وقع هذا الفقدان علينا وعلى ساكني حديقة الزهور... وعلى سالي؟
كان يعِدُها أن لا يغيب عنها أبدا، وإن كان اللقاء من خلف الأبواب الموصدة، التي لا قفلَ لها أو مفتاح، وصوته البعيد سوف يبلغها، كأنه حديث النفس:
"لا جريرةَ لكِ أو لي أو للآخرين في ما حصل. إنه حُكمُ الله، والحُبُّ هو الله.الحزن الشديد ينهش الروح والعظم يا سالي. خفّفي من غُلوائه أرجوك...".