علاء المفرجي
سؤالٌ راودني كثيراً، بخاصة مع اقتراب نهاية عام 2023: لماذا الحرب؟ تلك كانت سمة مميّزة للعام نفسه، إذ توزّعت هذه المرة، بشكل يكاد يكون متساوياً، على خريطة العالم، من أوروبا إلى أفريقيا وآسيا. في شرق أوروبا، استعرت الأحقاد إلى حَدّ المناوشات العسكرية، ثم إلى حربٍ طاحنة بين دولتين أوروبيتين، لتخلق اصطفافاً أوروبياً حولها، قد يُهدِّد بما لا تُحمَد عُقباه.
هناك أيضاً حربٌ أهلية بين الجنرالات في السودان، التي لا نعرف بالضبط أسبابها، وإلى ما ستفضي. أخيراً في آسيا، حرب إبادة في قطاع غزّة، التهمت إلى الآن أكثر من 20 ألف ضحية، 80 في المائة منهم أطفال ونساء وشيوخ، لا ذنب لهم سوى أنّهم موجودون في منطقة الحرب.
السؤال ألحّ عليّ عام 2023، كما أقَضّ مضجعي في ثماني سنوات، يوم كنتُ نزيل خنادق الحرب، جندياً في حرب الخليج الأولى، إذ زُجِجتُ في حربٍ لا ناقة لي فيها ولا جمل. لكنْ، ما كان يدفعني إلى خوضها أنّها تُهدِّد باستباحة بلدي.
ألا تستطيع السينما، بكلّ ما نالها من تطوّر تقني، أنْ تُبشّر بالسلام، وبعالم بلا حروب، كما عملت، في أفلامٍ كثيرة، على الدعوة إليها، أي إلى الحروب؟
في رواية "الحرب والسلم" (1864 ـ 1869) لليو تولستوي، أفكارٌ عن فلسفة الحرب، كان لها أثر كبير في الفكر اللاحق للحرب؛ وتأثيرٌ مباشرٌ في فلسفة غاندي، المتمحورة حول تبني المقاومة السلمية.
على السينما أنْ تضمّن خطاباتها عن الحرب أسبابها وكيفية درئها، وطرح أسئلة عن أسباب نشوبها: هل لأنّ الكائن البشري عنيف بطبعه، وذو نزعة تدميرية، ودينامية التاريخ تثبت التشكلات الكبرى للجغرافيا بعد الحروب، والعلاقات بين البشر تسير أحياناً نحو الهاوية؟ أم أنّها بزعم أمرائها ضرورة للحفاظ على المكاسب الاقتصادية؟
لا شكّ أنّ مهمّة السينما ستكون صعبة بالتحدّيات التي تواجهها، والتحدّيات أصلاً تأتي، أحياناً كثيرة، من القائمين على هذه السينما. لكنْ، يكفي أنْ نُلقي نظرةً على نتائج هذه الحروب، أقلّه تلك المندلعة عام 2023، والكوارث التي تتركها، والمآسي الإنسانية التي تخلّفها، تجعلنا نفهم الحاجة إلى نوع كهذا من السينما. جعلَنا كورونا نعيش حالة تضامن وألفة غير معهودة بيننا نحن البشر. فهذا الموت الغامض، المنفجر أمام وجوهنا، لا يُفرّق بين عرق وآخر، أو جنسٍ وآخر، فالعالم كلّه في مواجهته، وشُنَّت حربٌ، بمفهوم إيمانويل ماكرون (الرئيس الفرنسي)، من نوع آخر في مواجهته. لكنْ، ما إنْ انتهت هذه الحرب "الشريفة" التي خاضها العالم، حتى عاد البشر إلى مسارهم العنفيّ والدموي. فالحرب لم تختفِ من الوجود البشري، ويكفي أنْ نُذكّر بأنّ عدد الضحايا، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، إلى بداية الألفية الثالثة، أكثر مما سبّبته الحرب الثانية تلك.
لذا، فإنّ مشهد الحروب عام 2023 ترسّخ في ذاكرتي، كمشهد استثنائي وحيد، تناسَل أسئلة وأسئلة، وأعاد إليّ بعض ما عشته أيام حرب الثماني سنوات. إنّه المشهد الذي تستطيع السينما اختزاله بفهمٍ واقعي، في تقديم الأسباب السيكولوجية لنشوب الحرب واستمرارها، واستعراض مآلاتها غير الإنسانية، وأثارها المدمّرة.
عند قراءة أيّ كتاب عن تاريخ العالم، ينتهي المطاف على الأرجح ونحن نحمل انطباعاً عاماً بأنّه يستحيل على البشر أنْ يعيشوا في سلام. لكنْ، لِمَ يَصعُب على البشر العيش في سلام؟ لِمَ تحدث الحرب أصلاً؟ هل هناك ما يُمكنه تفسير كلّ هذا العنف، غير المُبرّر أحياناً كثيرة؟
أسئلة أخرى تُطرح عشية انتهاء عام 2023، الذي لوّنت أيامه مأساة الحروب التي تنبئ بحروب جديدة. لعلّ السينما، التي نملك بعض الخُلّص إليها، أن تقرأ هذا الواقع، وتعيد إنتاجه أفلاماً تنشد السلام بين البشر. السلام، ولا شيء غيره.