د. كريم شغيدل
للشاعر سهيل نجم نص مماثل هو عنوان لمجموعته الشعرية (لا جنة خارج النافذة) يصلح أن يكون سيرة لحظة من حياة الشاعر، أو سيرة حقبة زمنية تهيمن بها علامات العنف بموازاة الشعر،
فهو يفترض سيرة لآخر، لكنه يتماهى معها بين آونة وأخرى ليغير صيغة الخطاب من الآخر إلى الأنا، فبين أوراق الشاعر والمسدس مساحة من الاستفزاز والخوف والتردد والإحباط، وبين عزلته والآخرين الأعداء المجهولين مساحة من العنف الذي يعجز عن مواجهته، وفي نص آخر من المجموعة ذاتها بعنوان (أوراق من دفتر الغياب) الذي يتكون من تسع حركات أو مقاطع أو أوراق كما يشير العنوان، يمزج سهيل نجم سيرته بسير أقرانه، من خلال موضوعة الغياب، أو التشتت في أصقاع الأرض منذ حقبة التسعينيات مع موجة الهجرة العراقية إلى دول اللجوء، حتى ما بعد أحداث 2003، ففي الورقة الأولى ثمة نداء (تعااااااااالوا/ نحن هنا في مأمن)، وفي الورقة الثانية هناك جرد في مصائر الأصدقاء:
"يا سلمان، ثمة رسائل لك من موسكو،/ أخوك عبر المضيق/ وسيمزق الجواز بعد الوصول،/ وصديقك عزيز قبضوا عليه في طائرة/ كان يرتدي يداً مزيفة، قالوا-/ وفاضل حزين في مدريد،/ كلما رسم شمساً غشيها الضباب،/وكاظم غرق في مركب/ كان يقطع البحر الأسود/ ويداه تتشبثان بالماء./ محمد تزوج من روسية، بضة وتحب النوم./ وحسين غريب في بغداد... "
نلحظ هنا أنَّ النص عبارة عن إشارات أو ومضات سيروية لآخرين، الشاعر جزء منها، الأسماء حقيقية والمدن حقيقية، والأحداث حقيقية، واقع يكاد ينقله الشاعر كما هو ليحقق خاصية الإدهاش من دون تلاعب لفظي أو متخيل شعري، فهو مدهش بذاته، وفي الورقة الخامسة يقدم النص أسلوباً سردياً مباشراً هو أسلوب الحوار (الدايلوج) بين جندي وضابط أثناء الحرب، يختزل من خلالها سيرة جندي هارب أو قتيل أو متمرد أو عاصٍ أو معدوم، هو ذات متشظية بذوات، أو ذوات متلبسة بذات، وهنا يكثف النص مدلول الصراع مع السلطة:
" - أنت من؟/ - سيدي جندي دحرجتني الحرب/ من الجبال إلى المملحة./ - سر الليل؟/ -وطن... ماء... عاصفة./ - كرر!/ - وطن... دماء... قاذفة./ - هل أنت ميت؟/ - سيدي قتلت مرتين واعدموني ثلاثاً./ - أيها الخائن وهل يموت الجندي؟"
ويستمر النص حتى يصل إلى نهايته (سيدي... ليس لموتي نهاية) فسواء كانت هذه شذرات من سيرة ذاتية أم سيرة آخر، نجد أنها ذات قصدية في التماهي بين الأنا والآخر، وأنها خرجت من النسقية التقليدية التي تنتجها الثقافة المؤسساتية لتهيمن بظلال خفية على المنتوج الثقافي، إذ يخضع النص لسلطتين: الأولى سلطة المهيمنات الثقافية التي تؤدلج النص من حيث لا يدرك الشاعر، والثانية سلطة الشاعر من حيث أسلوبه وبراعته ورؤيته التي تميزه فنياً، لكنها لا تتدارك سقوط النص بأنساق لا تمت للذات الإنسانية بصلة، فبدل هكذا نص، يمكن بالآلية نفسها إنتاج نص يجمِّل الموت ويغذي روح العنف بقيم البطولة المزيفة ويحول الهزيمة الإنسانية أمام بشاعة الحرب إلى انتصار لقيم بالية لا تفكر بالإنسان بكونه قيمة عليا، وهذا هو لب التحول النسقي في الخطاب الشعري من خلال التوظيف الفني والرؤيوي للسيرة الذاتية، وقد وظف الشاعر في هذا المقطع واقعة يومية من وقائع الحياة العسكرية، هي سؤال القادم عن (سر الليل) لإثبات انتسابه للوحدة العسكرية، وهو ثلاث كلمات تقال بالتناوب بين السائل والمسؤول، وتستعمل كلمة (كرر) في حال وجود خطأ أو سهو أو غموض، وقد وظفها الشاعر بدلالة متحولة بألفاظ تتطابق صوتياً في حروفها الأخيرة(وطن، ماء، عاصفة- وطن، دماء، قاذفة) بحيث بقية كلمة وطن كما هي، بينما تحول الماء رمز الحياة والنماء والسلام إلى دماء رمز القتل والعنف، وتحولت العاصفة إلى دلالة كنائية مقاربة، فالعاصفة وإن كانت ظاهرة طبيعية لكنها دالة على الغضب والدمار، مقابل القاذفة التي هي سلاح يحمل على الكتف ويطلق صواريخ تخلف عصفاً وتنتج تفجيراً يطال الدروع والآليات، وبهذا رسم النص صورة مختزلة للحرب التي اجتاحت الوطن وغيرت ملامح الحياة، وهذه اليوميات نادراً جداً أن نجدها في غير الشعر العراقي الذي أصبحت له خصوصية رؤيوية في توظيف السيرة الذاتية في الشعر.