اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مسرات القراءة – مباهج الكتب

مسرات القراءة – مباهج الكتب

نشر في: 13 فبراير, 2024: 10:16 م

لطفية الدليمي

مدهشة هي البهجة التي تغمرني لدى قراءة بعض الكتب و تضفي على أيامي جملة من معانٍ جديدة ومسرات لانظير لها،

و لا أتردد بالقول انها تحفز التفكير وتنعش الخيال على نحو قد لاتوفره طُرُز الفنون الأخرى. القراءة فعلٌ نرتاحُ إليه ونحن في خلوة محببة، ولسنا نطلبُ منه مكافأة سوى المتعة والخبرة وترميم ماانكسر من أرواحنا ومواصلة العيش بقلب ثابت يقوى على مواجهة المشقات ونحن نخوض غمار التحديات المتفاقمة في زمننا.

تمتعت مطلع هذا العام بقراءة مجموعة من الكتب المختارة وفي مقدمتها رواية (بطرسبورغ) التي صدرت عن دار المدى وهي للروائي والكاتب والشاعر وعالم اللسانيات والفيلسوف والناقد الروسي (أندريه بيلي) الذي أدهشني – وهو المتبحر باللسانيات - بلغته الفريدة واشتقاقاته غير المسبوقة وغرائب مفرداته وتعابيره العجيبة. كما أدهشني بطريقة اخرى و أبهجني كتاب) التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي Storythinking: The New Science of Narrative Intelligence) لمؤلفّه أنغوس فليتشر Angus Fletcher. الكتاب صدر حديثاً عن جامعة كولومبيا الامريكية ولم يُتَرْجَمْ بعدُ إلى العربية. أمر ممتع أن نقرأ عن (العلم الجديد للذكاء السردي) إذ يؤكّد المؤلف في فصول الكتاب العشرة على فكرة أن القصة أداةٌ للتفكير البشري. وستساعدنا مطالعة عناوين الفصول في تحسّس هواجس المؤلّف ومناطق اشتغالاته البحثية: القصة، القصة والتفكير، أصل القصّة، لماذا تعلّمُ مدارسُنا المنطق بدلًا من القصة؟، حدود المنطق، الآلية الدماغية للتفكير القصصي، الارتقاء بالتفكير القصصي، التفكير القصصي من أجل التطوّر الشخصي، التفكير القصصي والتطوّر الاجتماعي، كيف تجيب القصة على معنى الحياة؟

لدى قراءة هذين الكتابين استعدت البهجة السالفة التي كان كثيرون منّا يعيشونها في العقود الماضية وهُمْ يقرأون. تساءلت: ماالذي حصل لنا؟ لماذا تضاءلت مناسيبُ بهجة الناس ومتعتهم في مايقرأون ويكتبون (معظمهم وليس كلّهم بالتاكيد)؟ أهي الكثرة التي أفسدت البهجة؟ بلى. سنتذكّرُ (لأغراض المقارنة) حال ذاك المتبطّل حين لم يعجبه العدس الذي إعتادت أمه إعداده له معظم أيام الاسبوع، ثمّ لمّا إضطرّه الحال للنزول إلى ساحة العمل والعودة إلى المنزل وقد هدّه التعب راح يستطعمُ العدس ويجده طعامافاخراً. كنّا من قبلُ نقاتلُ (أكرّر: نقاتل على صعيد الجهد والمال) حتى نحصل على بعض الكتب التي نتمنى قراءتها. واضحٌ أنّ سهولة المنال بين كثرة متاحة تُذهِبُ بمتعة القراءة المتوقّعة بعد كفاح شاق ومال مبذول من أجل اقتناص كتاب نادر. كثرةُ الكتب المتاحة للقراءة – ألكترونياً أو ورقياً – ساهمت في إفساد بعض بهجة القراءة التي كانت متاحة لنا من قبلُ؛ لكنّ هذه الكثرة ليست كلّ الحكاية. الكثرة لن تقتل بهجة القارئ المتمرّس الذي لن يكون فريسة سهلة الاصطياد من جانب كثرة العناوين وإغراءات دور النشر وألاعيب السوق.

الكثرة رحمةٌ وليست نقمة لو شئنا. الكثرة لها إمتيازاتها وأفضالها علينا إذْ اتاحت لنا كثرة الخيارات. هنا بدأنا نقتربُ من جوهر المعضلة. مع كثرة الخيارات لامهرب لنا من أن نختار، والاختيارُ بين كثرةٍ عمليةٌ أكثر إجهاداً للعقل والارادة من الاختيار بين قلّة. أغلبنا يفضّلُ الاختيار بين قلّة من الخيارات. هذه حقيقة لايصحُّ أن نتغافل عنها، وهي ليست مقصورة على خيارات الكتب بل تمتدُّ على نطاق واسع لتشمل مجالات كثيرة في الحياة: الدراسة والعمل والسكن والسفر.

لو تعاملنا مع الامر بطريقة مُعقلنة فلابدّ من إعمال الارادة. لن تمضي حياتنا دوماً والارادةُ الذاتية معطّلة. لابدّ أن نقتنع بحقيقة أنّ المعروض من الكتب أكثر بكثير من قدرتنا على القراءة، وأنّ تعدّدية خيارات القراءة المتاحة لنا هي إمتياز لنا غاب عن كثيرين سبقونا ويتوجّبُ إستثماره بطريقة ذكية. يجب أن نجعل الحقائق الحاكمة التالية حاضرة لاتغيب عن عقولنا:

الحقيقة الاولى: الانتقائية مطلوبة لأنّ الكتب المتاحة للقراءة تتزايدُ على نحو أكبر بكثير من قدراتنا على الاحاطة بها أو معرفة حتى عناوينها.

الحقيقة الثانية: ليس من أرقام سحرية لأعداد مايتوجّبُ علينا قراءته. ليس مِنْ لائحة سلوك تنصّ على فقرة تقول " عندما تقرأ ألف كتاب فأنت تكون حينها مستحقاً للمباركة والانضمام إلى نادي القرّاء الخالدين ".

الحقيقة الثالثة: الكتاب سلعة ولايصحُّ إعتباره كينونة متفرّدة بسبب قيمته الفكرية - لو وُجِدَتْ له مثل هذه القيمة -. عَزْلُ القيمة السلعية عن القيمة الفكرية عملية خرقاء فضلاً عن كونها غير واقعية. دور النشر العالمية تتفنّنُ في عرض الكتاب كسلعة بإجراءات معروفة منها: الاخراج الراقي، العروض المسهبة في الصحف والدوريات ومراجعات الكتب. لايصحُّ أن نكون أسرى هذه الدور الباحثة عن المال.

الحقيقة الرابعة: عندما لاتكون مضطرّاً لقراءة كتاب ما - لسبب دراسي أو مهني – فمعيار المتعة هو المعيار الحاكم والاوحد. القراءة المتكلّفة أو المدفوعة بموضات حداثية أو فكرية شائعة (أقرب للتريندات في مواقع التواصل الاجتماعي) هي إرهاق غير مجدٍ ولامنفعة تُبتغى منه.

الحقيقة الخامسة: للكتاب طغيانٌ وسحرٌ عند بعض الناس (في الاقل). من الافضل عدم ترك هذا الطغيان الساحر يتغوّلُ إلى حدود منفلتة. تكديس الكتب التي لن نقرأ معظمها قد يستحيل فعلاً هَوَسياً يصعب كبحه إن هو طغى وتجبّر وصار عادة من العادات الاعتيادية المقبولة.

الحقيقة السادسة: كتابُ واحد قد يُغني عن قراءة عشرة كتب أو مائة أو حتى ألف!!. كثرة المعروض من الكتب قد تكون خادعة. زادت العناوين ربما في المبحث الواحد؛ لكنها قد تجعل القارئ يغوصُ في حومة رغوة لغوية متقنّعة بقناع الرصانة والانضباط والصرامة؛ وهنا ستكون الفعالية الجوهرية لنا هي أن نعرف الكتاب الذي سيغنينا عن قراءة كتب كثيرة أخرى في الميدان ذاته. تنمو هذه الخاصية النوعية فينا مع الخبرة الشخصية والاستشارة الدقيقة من بعض المختصين المعروفين بالاجتهاد والمثابرة، وكذلك بالرجوع إلى القراءات الرصينة في بعض مواقع مراجعات الكتب المشهود لها بالنزاهة المتفرّدة.

* * *

ترافقت كثرة أعداد الكتب المنشورة ومايستتبع هذا من كثرة الخيارات المتاحة لنا بظاهرة أخرى مؤذية: ظاهرة العدّاد Counter. لستُ واثقة من أنّ مفردة (العدّاد) هي الترجمة المناسبة. هناك من يترجمها إلى المعداد. لابأس. لتكن العدّاد وحسب.

تسبّبت كثرة الكتب في نشوء ظاهرة القارئ العدّاد، القارئ الذي يقرأ وكأنّه عدّاءٌ في مضمار سباق. لو كان المضمار لسباق ماراثون ربما كنّا ارتضينا الحال؛ لكنّ القارئ العدّاد لايقبلُ سوى بمضمار السباقات القصيرة. يقرأ وفي باله عناوين أخرى تنتظر القراءة؛ فيخسرُ لذّة اللحظة الحاضرة ولذّة التوقّع المستقبلي المخبوء في كتاب قادم. ثمّة مَثَلٌ إعتاد آينشتاين قوله لزوّاره: تمتّعْ بلذّة اللحظة الحاضرة ولاتُفسِدْها بترقيع الثقوب العتيقة!!

القارئ العدّاد تهمّه الاعداد. كم قرأ؟ يبدو وكانّه يطاردُ غزالاً في برية. تفاقمت ظاهرة القارئ العدّاد مع تنامي وسائل التواصل الاجتماعي عندما راح يوظّفُ هذه المنصّات لعرض قائمة مطوّلة كلّ شهر أو سنة بالكتب التي قرأها، وبين هذه القراءات كتبٌ متطلّبة تستلزمُ وقتاً وجهداً كبيريْن يعرفُ القارئ المدقّق حجم كلّ منهما. ماذا يريدُ القارئ العدّاد؟ أيريدُ استعراض قائمة مقروءاته التي لاتلبث تتضخّمُ كلّ شهر أو سنة؟ لاأراه

سوى خادع لنفسه قبل أن يكون خادعاً للآخرين. ماشأن الآخرين سواءٌ قرأ مائة او مائتين أو ألفاً من الكتب كلّ سنة؟

مثلما يوجد قارئ عدّاد يوجد أيضاً نظيرٌ له في الكتابة. إنّه الكاتب العدّاد. يكتبُ كتابه العاشر وهو يسرعُ الخطى لاهثاً نحو كتابه المائة. هل يعيشُ لذّة الكتابة؟ لاأظنّه يفعل ذلك. هو يكتب وفي ذهنه أن يكون منافساً لواحد من المعروفين بكثرة منشوراتهم. ينشغلُ بإلهاءات جانبية أكثر بكثير ممّا يفعل مع مايكتب. ربما يكتبُ وفي ذهنه جائزة دسمة.

نقرأ كثيراً عن كتبٍ تتناولُ مسرّات القراءة. أتمنّى أن نختبر هذه المسرّات بطريقة شخصية. المسرّة حالة نوعية يستعصي توصيفها في صياغات عددية. الافضل أن نقرأ ونكتب ونتمتّع من غير هاجس عدّاد القراءة والكتابة.

كتب الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي في واحد من دواوينه الشعرية:

وزنتُكَ ياوزّان الشِّعر

فكنتَ خفيفاً في الميزان

أظنُّ أنّ القارئ العدّاد والكاتب العدّاد لايختلفان كثيراً عن وزّان الشعر. إنّهما يقايضان لذّة الممكن في الحاضر المتاح بلذّة مستقبلية مؤجّلة قد تأتي؛ لكنّ الاغلب أنها لن تأتي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram