TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلام غير عادي: مربد

كلام غير عادي: مربد

نشر في: 13 فبراير, 2024: 10:17 م

 حيدر المحسن

ينظر الجميع إلى الوطن بعين تفسّر الأمور على نحو ميتافيزيقيّ، فهو يمثّل لدى البعض الراية التي ترفرف، أو التربة التي نمشي عليها، أو النهر والشجر والأمّ والأب، وفي عالم الفنّ ثمة جانب غير واقعيّ في صورة الوطن، أو قل إنها صورة خرافيّة يرسمها الفنان لبلده، ويتمسك بها، وأثبتت الوقائع أن هذه الصورة هي كلّ ما تبقّى من دول قامت ثم ماتت، وانطوت عليها صفحات الزمان. هل نحن نقترب من تفسير أن تمثال الحجر يبقى بعد زوال المدينة الحجر؟

الشعر يبقى هو الآخر، ولو زرتَ مدن العالم لوجدتَ النُصُب القائمة للشعراء أعلى قامة وأكثر عددا. في بغداد لدينا تمثال أبي نؤاس والمتنبّي والكاظميّ والرصافيّ والجواهريّ، مع نصب واحد للفارابي وآخر للواسطي، وهذه حصّة الفلسفة والرسم، وللسياسة اثنان: عبد المحسن السعدون وعبد الكريم قاسم. قدحُ الشعر عندنا هي العالية ونور شمعته باهر، كما أن تمثال الشاعر لا يُسقط في زمن آخر، ليقوم في مكانه تمثال جديد...

تعريفُ الشعر حسب ت.س. إليوت أنه "تسلية سامية"، فإذا تراجع في معناه أو شكله تدنّت الرِّفعة في أثره، ويشترك القصيد في هذا مع بقيّة الفنون. يحدث الأمر عندما تتأخر صور الحضارة والتمدّن في البلاد، نتيجة الحرب أو الوباء أو الاحتلال، فيعمّ الجهل وتسوس الأذواق ويختلط اللون الأخضر والأسود والأبيض، فلا ترى للفنّ وجودا حقيقيّا، ولا يبعث بالتالي أملا أو يقدّم حافزا للجمهور أن يخطو إلى أمام، لا العكس. في مقدمة ابن خلدون نقرأ عن فنّ الغناء إنه أول ما يتداعى صرحه من الفنون، وآخر ما يستعيد بريقه عندما تعود العافية إلى المجتمع العليل بسبب الوباء أو الحرب أو الاحتلال. فإذا رحنا إلى التعريف الأمثل: "الشعرُ غناء"، صحّ لدينا ما قاله صاحب المقدّمة عن الشعر أيضا.

قصة الشاعر العميد مؤيّد الدين الطغرائي مع الخبز أرزي شهيرة، يذكرها الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر"، ولا بأس من التذكير بها: يقول الثعالبي إن لاميّة الطغرائي لم تشتهر بين الناس في ذلك العصر، مثلما كانت قصائد الشاعر الأمّيّ صانع خبز الرزّ تطير في الآفاق، رغم أن اللاميّة تُعدّ من كنوز شعر العرب، وهذا مطلعها:

أصالَةُ الرَّأيِ صانَتْني عنِ الخَطَلِ وحِليةُ الفَضْلِ زانَتْني لَدَى العَطَلِ

يفرد الثعالبي فصلا لتبيان الفرق بين ذوق العامّة والخاصّة فيما يخصّ الشعر، كأنّ الأولّين لا يرغبون الإبداع الفنّي، فهم يطلبون المعنى الزهيد والمفردة الضعيفة لأنها أقرب إليهم، وكلٌّ يفتّش في الوجود عن قرينه. هل يذكر الشاعر الخبز أرزي أحدٌ الآن؟ طواهُ الزمن ومحت رياحه كلّ ما قال وغنّى، بينما تجد هذا البيت من اللاميّة محفوظا في صدور الجميع:

أُعلِّلُ النَّفسَ بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ

تذكّرتُ قصّة الخبز أرزي لمّا بلغني أن المشرفين على مهرجان المربد اختاروا الشاعر أحمد مطر ليحمل اسمه، وهو شاعر مجيد في استعمال أدواته لكنّه تأخّر كثيرا، في رأيي، في موعد نبوغه. كان الأحرى أن يكون رفيقا للزهاوي والرصافي في ذلك الزمان، أمأ أن يظهر بيننا الآن، وقد عبرت غيوم السيّاب والبريكان وسعدي يوسف المثقلاة بغيث الحداثة سماءنا، فإن شهرته تستحقّ أن يتناولها النقد.

إن أيّ تغيير في شكل الشعر يؤدي بالضرورة إلى تغيير جوهري في طبيعة المجتمع، ورغم أن أحمد مطر عاد بالشعر إلى عموده القديم، لكنك لا تعدم في شعره المفردة العذبة واللحن الشجيّ، كما أنه يختار الغرض السياسي الذي يتداوله الجمهور، مع لوعة باكية وشيء من الغزل... وغير ذلك مّما يقع في صفحة أدعوها "تحت الشعر"، ولهذا السبب ذاعت شهرته بين الناس، خصوصا النساء، ويطلبه المتأدّبون كذلك، وليس غريبا أن ترفع شعرَهُ الروائيّة ميسلون هادي عند أعلى مكان من صفحتها في الفيسبوك، يُحسبُ هذا الأمر لها أو عليها، وكذلك أمر المشرفين على المهرجان البصري هذا العام، فإن تقديمهم لواء أحمد مطر سوف يُحسب لهم أو عليهم، عندما تتوضّح في المستقبل الألوان في بلادنا، ويستطيع الناظر التفريق بين الأبيض والأخضر والزنجاري...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ارتفاع حصيلة حادث تصادم طريق الناصرية-السماوة إلى 13 ضحية

أنشيلوتي يتحدث عن مبابي.. "لديه فرصة" مثل رونالدو

السوداني يبحث تطورات الأوضاع في سوريا خلال اتصال هاتفي

إطلاق سراح 500 مشمول بقانون العفو العام

القبض على 7 اشخاص اطلقوا النار في الهواء ببغداد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: السعادة على توقيت الإمارات

منطق القوة وقوة المنطق.. أين يتجه صراع طهران وواشنطن؟

تركيا تواجه التحول الجيوسياسي الناجم عن عودة دونالد ترامب إلى السلطة

كلاكيت: عن (السينمائي) وعبد العليم البناء

الطائفيّة بين الاستعمار ومناهضة الاستعمار

العمود الثامن: السعادة على توقيت الإمارات

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجزعن مواجهة واقع يسير بنا إلى...
علي حسين

كلاكيت: عن (السينمائي) وعبد العليم البناء

 علاء المفرجي علاقتي مع (السينمائي) لها حكاية، تبدأ من اختياري لها لكتابة عمودي (كلاكيت) منذ عددها الأول، ولا تنتهي بعددها الأخير. ولئن (السينمائي) تحتفل بعشريتها الأولى، كان لزاما عليّ أن أحتفل معها بهذا...
علاء المفرجي

تركيا تواجه التحول الجيوسياسي الناجم عن عودة دونالد ترامب إلى السلطة

جان ماركو ترجمة: عدوية الهلالي في الأسابيع الأخيرة، ومع ظهور الديناميكيات الجديدة للجغرافيا السياسية لترامب، تركز الاهتمام إلى حد كبير على اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية، بدلاً من التركيز على دول الطرف الثالث التي...
جان ماركو

منطق القوة وقوة المنطق.. أين يتجه صراع طهران وواشنطن؟

محمد علي الحيدري يبدو أن ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة دخل مرحلة جديدة من التعقيد، ليس بسبب طبيعة الخلافات القديمة، بل نتيجة تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي، الذي بات يفرض مقاربة مختلفة عن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram