روبرت استيبانيان*
ترجمة: عدوية الهلالي
على مدى العقدين الماضيين بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، كان نظام الرعاية الصحية في البلاد في حالة تدهور حاد ولا يزال يعاني من أزمة.
إن نظام الرعاية الصحية في العراق متعدد الأوجه ولا يزال يواجه إلى حد كبير العديد من التحديات الخطيرة المقبلة. إن أزمة الرعاية الصحية ناجمة إلى حد كبير عن التعقيدات الاقتصادية والسياسية التي اجتاحت العراق منذ عام 2003. وتشمل هذه التعقيدات سوء الإدارة، والافتقار إلى قيادة سياسية مستقلة وخبيرة، وانتشار الفساد، وعدم كفاية التخطيط المستدام طويل الأجل.
لقد أدت هذه المشكلات إلى انخفاض كبير في جودة خدمات الرعاية الصحية الأساسية وكفاءتها وإمكانية الوصول إليها بالنسبة لمعظم العراقيين، وخاصة أولئك الذين يعانون من ظروف صعبة اقتصاديًا. ونظرًا لجذوره في الحروب الطويلة والصراعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي، فإن نظام الرعاية الصحية مرهق بسبب ارتفاع طلبات المرضى ونقص الوصول إلى الرعاية المتخصصة. إن السياسات الصحية المبتكرة طويلة المدى التي يمكن أن توفر خدمات رعاية صحية فعالة وسهلة المنال وبأسعار معقولة لجميع العراقيين غائبة وتساهم في زيادة الفوارق وكذلك خفض جودة خدمات الرعاية الصحية الأساسية وإمكانية الوصول إليها. علاوة على ذلك، يهيمن على قطاع الرعاية الصحية الفساد المنتشرفي هذا القطاع العام وغيره من القطاعات. ولا تزال معظم مراكز الرعاية الأولية والثانوية في العراق تعاني من نقص الموظفين، وغير فعالة، وتفتقر إلى الموارد السريرية اللازمة لمعايير الرعاية في القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت نفسه، تتوسع أنظمة الرعاية الصحية الخاصة واسعة النطاق بسرعة في جميع أنحاء البلاد، وتعمل كطرق بديلة لنظام الصحة العامة. وتعمل هذه العملية المحظورة سياسيًا على إنشاء نظام رعاية صحية ذو مسارين، أحدهما مصمم خصيصًا لأولئك القادرين على تحمل تكاليف خدمات الرعاية الصحية الخاصة والآخر لأولئك الذين لا يستطيعون ذلك، مما يؤدي إلى زيادة فجوة عدم المساواة الصحية داخل المجتمع. هناك أيضًا غياب واضح للقيادة الصحية ذات الرؤية طويلة المدى لإدخال وتنفيذ استراتيجيات الرعاية الصحية الجديدة. وتشمل هذه على سبيل المثال أدوات الوقاية الفعالة على مستوى السكان والحلول الصحية الرقمية التي تستخدم البنى التحتية الرقمية والإنترنت المتاحة والمستخدمة على نطاق واسع. وهذه، إذا تم تنفيذها بنجاح، يمكن أن تكون قادرة على التخفيف من العديد من التحديات المذكورة أعلاه.
طوال العقود التي سبقت حرب الخليج الأولى في الثمانينيات، عزز نظام الرعاية الصحية في العراق بعضًا من أفضل خدمات ومعايير الرعاية الطبية في الشرق الأوسط، ثم بدأ تراجع نظام الرعاية الصحية العامة في العراق في أوائل التسعينيات في أعقاب حرب الخليج الثانية والعقوبات الاقتصادية اللاحقة التي استمرت لعقد آخر. وقد أدى غزو العراق عام 2003 إلى تفاقم هذا الوضع، مما أدى إلى إلحاق الضرر بقطاع يعاني أصلاً من سوء الإدارة بسبب العقوبات التي استمرت عقدًا من الزمن. وفي أعقاب الغزو مباشرة، ساهمت القرارات السياسية الخاطئة التي اتخذتها سلطة التحالف المؤقتة بقيادة الولايات المتحدة في زيادة هذه العملية المتدهورة. منذ ذلك الحين، تهيمن على نظام الرعاية الصحية العامة في العراق نخبة غير كفؤة ومعاقبة سياسيًا ومحمية بشدة، وهي مسؤولة إلى حد كبير عن الفساد والتدهور والتراجع المستمر.
يمكن رؤية تأثير سوء الإدارة اليوم في العديد من مرافق الرعاية الصحية، وارتفاع مستويات انتشار الأمراض، واستمرار انخفاض جودة الرعاية، وضعف الوصول إليها، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية، وانعدام الأمن، والهجرة الجماعية للمتخصصين العراقيين منذ عام 2003. هذه العوامل وغيرها هي نتائج عقدين من سوء التخطيط المستمر للرعاية الصحية، وصنع السياسات الصحية غير الكفؤة، وانخفاض مستويات التعليم الطبي، والاتجاهات الفاسدة للنخبة الحاكمة في قطاع الرعاية الصحية. وينعكس ذلك في الانخفاض الحاد في مؤشرات الرعاية الصحية في العراق منذ عام 2003.
تعكس الزيادة الأخيرة في الأمراض غير المعدية والصحة العقلية والأمراض المعدية الأخرى بين العراقيين اتجاهات المؤشرات المذكورة أعلاه. على سبيل المثال، هناك مستويات عالية من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم والسرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية بين العراقيين خاصة في السنوات الأخيرة. وتشكل هذه واحدة من أسوأ مستويات انتشار الأمراض غير السارية في منطقة الشرق الأوسط. وقد أشارت وزارة الصحة العراقية إلى أنه في عام 2019، كان أكثر من 20٪ من معدلات الوفيات بين الشباب العراقيين بسبب الأمراض غير المعدية. وتقدر منظمة الصحة العالمية أيضًا أن الأمراض غير السارية تمثل 62% من إجمالي الوفيات في العراق. علاوة على ذلك، هناك اتجاه متزايد وبائي في مجال الصحة العقلية في العراق. ويرجع ذلك إلى الزيادة المقلقة في معدلات إدمان المخدرات، مما أدى إلى ارتفاع حالات الانتحار بين الشباب العراقي. كما تساهم التغيرات المناخية والبيئية القاسية في العراق، بالإضافة إلى ارتفاع مستويات التلوث والعنف والعوامل المجتمعية الأخرى، في الزيادة الإجمالية في تشخيص السرطان وتدهور الصحة البدنية وزيادة نوبات الصحة العقلية خاصة بين السكان الأصغر سنا.وتشكل مستويات التلوث المتزايدة للهواء والممرات المائية أيضًا عوامل رئيسية تساهم في ارتفاع معدلات الوفيات. ولا توجد حتى الآن دراسات علمية مفصلة وواسعة النطاق، ولا استراتيجيات تخفيف طويلة الأجل، أو سياسات وقائية وطنية قابلة للتطبيق، ولا حلول قابلة للتطبيق للتخفيف من حدة هذه التحديات. ولايزال التفكير السائد بين صانعي السياسات الصحية العراقيين يركز إلى حد كبير على المجال التفاعلي والعلاجي، ولا يتم توجيه الكثير نحو تنفيذ حلول رعاية صحية وقائية وشخصية فعالة.
علاوة على ذلك، يوجد في العراق أحد أكبر أعداد النازحين في المنطقة. وقد أدت رداءة نوعية الخدمات الصحية وغياب خدمات الرعاية الاجتماعية الكافية إلى خلق أزمة إنسانية كبيرة، خاصة منذ انتهاء الصراع ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2018. وقد أدى غزو داعش الكارثي إلى نزوح أكثر من 6 ملايين عراقي بين عامي 2014 و2014. وفي عام 2017، بقي ما يقرب من 2.5 مليون عراقي في حاجة ماسة إلى الرعاية الصحية الأساسية وخدمات الصحة الاجتماعية والعقلية. لقد تطورت هذه الأزمة من أزمة رعاية صحية حادة في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش إلى أزمة طويلة الأمد.
فضلا عن ذلك، كان التأثير المدمر لجائحة كوفيد-19 في عام 2020، مع ارتفاع معدلات الإصابة والوفيات بين العراقيين، يشكل سيناريو حادًا آخر لأزمة الرعاية الصحية هذه، فقد أفادت منظمة الصحة العالمية ان العراق أعطى ثاني أكبر عدد تراكمي من الحالات، ورابع أكبر عدد من الوفيات.
ومنذ عام 2003، تأثرت السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية العراقية بشدة بالنخبة الحاكمة ومصالحها السياسية الطائفية. وقد أدت هذه السيطرة، إلى جانب الافتقار إلى المساءلة المناسبة، إلى الرقابة التشريعية غير الفعالة. ويمتد هذا إلى أداء ونتائج الفروع التنفيذية الحكومية، علاوة على ذلك، فإن الزيادة الأخيرة في مستويات العنف والهجمات على الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية داخل المستشفيات العراقية أمر مثير للقلق.وتعكس هذه الاتجاهات ارتفاع مستويات انعدام الأمن والظروف الفوضوية وسوء الإدارة في العديد من مراكز المستشفيات الرئيسية وأماكن الرعاية الصحية في العراق. وتدفع هذه الظروف العديد من الأطباء والمتخصصين إما إلى مغادرة البلاد نهائياً أو الانتقال داخلياً إلى مناطق أكثر أماناً.
وتعد الإصلاحات الاستراتيجية العاجلة في قطاع الصحة والإصلاح الشامل ضرورية للتغلب على هذه العوائق. ويشمل ذلك التحول التدريجي بعيدًا عن تسييس نظام الرعاية الصحية وعمليات صنع سياسات الرعاية الصحية، فضلاً عن القضاء على الفساد المؤسسي داخل القطاع.ويعد تنفيذ استراتيجيات الوقاية المبتكرة والمستدامة والتحرك نحو رقمنة أنظمة الرعاية الصحية من الخطوات الحاسمة التي يجب اتخاذها لمعالجة تحديات الرعاية الصحية الحالية والمستقبلية بشكل فعال في العراق.
·بروفسور في مجال الصحة العالمية، كلية إمبريال