TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > العلاقة المأزومة مع الدولة

العلاقة المأزومة مع الدولة

نشر في: 20 فبراير, 2024: 12:02 ص

إياد العنبر

يتشابه الكيان السياسي العراقي مع ذلك الكائن المسخ في رواية "فرانكشتاين" لماري شيلي. فالعراق لم يكن يوما نتاج عقد اجتماعي، وإنما نتاج إرادة خارجية فرضت وجودها، وبقيت عبارة عن تجمع مكونات طائفية وعرقية وليس الشعب بأكمله.

ولذلك، حتى يومنا هذا، عندما نريد مناقشة مشكلة تأسيس الدولة العراقية نعود إلى مذكرة الملك فيصل الأول، التي نقلها عبد الكريم الآزري في كتابه "مشكلة الحكم في العراق"، ويقول فيها: "في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائما للانتفاض على أي حكومة كانت. فنحن نرى، والحالة هذه، أن نشكل من هذا التكتل شعبا نهذبه، وندربه، ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل...".

المفارقة أن أكثر من مئة عام على تأسيس الكيان السياسي في العراق، ومشاكل التأسيس لم تنته بعد. فالدولة العراقية، كما يصفها المفكر الراحل فالح عبد الجبار، ظاهرة يافعة تعود إلى عشرينات القرن العشرين، أي إنها نتاج الحكم الاستعماري، وتفتقر إلى العمق التاريخي والمؤسسات المتجذرة؛ وهي دولة إقليمية، أي وحدة جغرافية لا تضم شعبا (أمة) يبحث عن كيان الدولة، بل هي دولة تبحث عن كيان أمة. ويعتقد عبد الجبار في مقدمة كتابه "كتاب الدولة: اللوياثان الجديد": "المجتمع الممزق على أساس الهويات دون الهوية الوطنية، المحترب مع نفسه لن ينتج دولة. وكما قلت مرارا العراق بحاجة إلى أن يتصالح مع نفسه أولا. بخلافه لن تكون ثمة دولة".

منذ تأسيس الدولة في عشرينات القرن الماضي بقيت الفكرة الوطنية خجولة في مقابل الطروحات الأيديولوجية التي تريد تذويبها لصالح شعاراتها الرئيسة. وهذا ما فعلته الشعارات الماركسية، التي كانت تدعو للأممية، وتخون من يحصر فكرة الأولوية في الأوطان، وليس في مبادئ الحزب الذي تقوده دولة كبرى مثل الاتحاد السوفياتي سابقا.

والتقاطع بين الأيديولوجيات وفكرة الوطنية هو محصلة طبيعية لتراكمات شعارات تتبناها النظرية القومية، التي روجت لها النخبة الحاكمة في العراق منذ ستينات القرن الماضي، ومعضلة النظرية القومية تكمن في أنها نظرية ثقافوية في الأمة العربية أكثر منها نظرية في الدولة الوطنية، وبمعنى آخر- كما يراها محمد جمال باروت- هي ليست نظرية في الدولة-الأمة بقدر ما هي على وجه الدقة والتحديد نظرية تفصل بشكل تام بين الأمة والدولة.

لم تتجاوز النخب السياسية التي تحكمنا اليوم محنة العراقيين مع أولوية الأيديولوجيات على هويتهم ومصلحتهم الوطنية، فالإسلامويون الذين لهم الغلبة في الحكم والسيطرة على السلطة رسخوا هذه المحنة، وبدلا من أن يكون مشروعهم بناء هوية وطنية والدفاع عنها وترسيخها، بات مشروعهم الأول تغييبها تماما، وتغليب مصلحة المحاور الإقليمية بمشاريعها الطائفية، التي تريد ربط مصير بلدان المنطقة بمحاور الصراع التي لا تنتج إلا الحروب والفقر والعوز.

ولعل المعضلة الأكبر، أن القيادات السياسية التي تصدت للحكم بعد تغيير النظام في 2003، لم تكن تحمل مشروع إعادة بناء الدولة، وترميم علاقتها مع المجتمع، ولا حتى التفكير في الموضوع، وإنما جاءت بفكرة الاستحواذ على السلطة وتحويل مؤسسات الدولة واقتصادها إلى إقطاعيات تابعة للزعامات السياسية.

في أيام معارضة النظام السابق لم تكن خطابات وشعارات قوى الإسلام السياسي الشيعي تخلو من توظيف الآيات القرآنية التي تركز على موضوع الدولة، ولذلك تستحضر في خطابها السياسي الأدعية الواردة من المرويات الشيعية، في "دعاء الافتتاح": "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة". وتردد الزعامات السياسية الكردية مظلوميتها التاريخية من الدولة الدكتاتورية الشمولية وسياسة الأنظمة القمعية، وترفع دائما شعارات الدولة الديمقراطية التي تضمن حقوقها القومية. وأما القوى السياسية السنية فقد كانت دائما توحي بأنها تملك موروثا تاريخيا يرتبط بقوة بكيان الدولة وإدارتها.

لكن ذلك المخيال بالدولة في أيام المعارضة، لم يتجسد على أرض الواقع في أيام الحكم. وتحوّل التفكير من بناء الدولة التي كان المعارضون يحلمون بها، إلى العمل على تدمير كل ما يتعلق بحكم القانون والمؤسسات! وباتوا يتصارعون كل يوم لفرض سيطرتهم على مواردها. وبدلا من أن يغادروا فكرة مظلوميتهم من الدولة، باتوا يعملون على إدامة فكرة المظلومية من خلال تغليفها بنظرية المؤامرة! ولذلك- كما يقول المفكر المغربي عبد الله العروي- فإن "الدولة بقيت سرا محجوبا عنهم. كيف يفهمونها، كيف ينظرونها وهم لا يعاينونها ولا يلمسونها".

عدوى العلاقة المأزمة بين الطبقة الحاكمة والدولة، انتقلت إلى العلاقة بين المجتمع والدولة. وكيف لا تنتقل وهي امتداد تاريخي لتأزم علاقتنا مع الأنظمة السياسية التسلطية والشمولية، التي كانت تختزل الدولة بشخص الحاكم أو الحزب، ولذلك جعلتنا نكره وننفر من كل المؤسسات والقوانين ونعدها تصب لخدمة الطبقة الحاكمة وتسلطها، بحيث أصبحنا مصابين بانفصام الشخصية، فنحن في العلن نخضع لما يفرضه نظام الحكم، ولكننا في الخفاء نلعن كل ما يتعلق بالأوامر والنواهي التي تصدرها الدولة. كنا ولا زلنا نعتقد أن حزمة القوانين والتشريعات التي تصدر من الدولة هدفها ليس تنظيم شؤون حياتنا اليومية، ولكنها إجراءات من قبل الطبقة الحاكمة لإخضاعنا وإجبارنا.

وبدلا من أن تتجاوز قوى السلطة تلك الأزمة، عملت على ترسيخها، واستبدلت مفهوم الدولة المتعالي عن التناقضات الاجتماعية، إلى حكم بعنوان الطوائف والقوميات. وبدلا من ترسيخ مفاهيم "الشعب"، "الأمة"، "المجتمع"، استبدلتها بمفهوم يقسم المجتمع إلى مكونات طائفية وعرقية. ولم يبق في هذا الخواء العدمي سوى روابط لما قبل الدولة، وهي القبائل والأسر والطوائف، والإثنيات القديمة.

منذ تأسيس الدولة في العراق، لم تكن في يوم من الأيام دولة مواطنة، ولن تكون اليوم في ظل حكم الأوليغارشيات التي تسيطر على النظام وتعتاش بطريقة طفيلية على موارد الدولة، وكانت، ولا تزال، أبرز أخطاء الأحزاب والقوى التي حكمت العراق هي توسيع الهوة بين الحكام والمحكومين، وجعل المحكومين غير قادرين على التمييز بين حقدهم وكراهيتهم على الطبقة الحاكمة وبين تمردهم على الدولة.

ويعيد السياسيون بسذاجة، إنتاج مغذّيات التوتر في العلاقة مع الدولة، في الوقت الذي صدعوا فيه رؤوسنا بخطاباتهم عن مشروع بناء الدولة أو إعادة بنائها! لكن أحاديثهم تلك لا تتعدى سوى الخطابات واللقاءات التلفزيونية في أيام الانتخابات، وبعد هذا يعودون إلى الحديث عن حق المكون الطائفي، وأن هذا المنصب استحقاق لهذا المكون القومي، ويكون الحديث عن العرف السياسي باعتباره مقدسا وخطا أحمر لا يمكن تجاوزه.

حتى الآن لا تريد الطبقة السياسية الحاكمة مغادرة تفكيرها الذي يعادي الدولة، ويريد تدمير بقاياها الشكلية، وكأنما هناك ثأر قديم بينها وبين الدولة! وبدلا من الشروع في ترميم ما تبقى من مؤسسات وإعادة ربطها بالدولة، عملت الطبقة السياسية وفق خطين متوازيين: الأول تدمير بنيوي لكل رمزيات مؤسسات الدولة التي تعبر عن هيبة الدولة وكيانها وتعاليها عن الصراعات المجتمعية، ولعل المؤسسة العسكرية من أهم المؤسسات التي تعرضت لهذا التخريب المتعمد. والثاني، إنشاء كيانات موازية للدولة، إذ بدلا من أن يحكمنا الدستور والقوانين، بات يحكمنا التوافق بين الزعامات السياسية، وبدلا من أن تحتكر الدولة السلاح، بات لدينا الكثير من العناوين السياسية والعسكرية التي تحمل السلاح خارج سيطرة الدولة وتريد أن تخضع الدولة والمجتمع لسطوة سلاحها المنفلت.

ومن الرومانسية المفرطة التفكير بأن في مخيلة هذه الطبقة الحاكمة مساحة لفكرة الدولة ومفهومها؛ لأنها تعتقد أن نهاية سطوتها ونفوذها السياسي هي في قوة الدولة، وهي امتداد لموروث ثقافي واجتماعي لا يؤمن بمشروع الدولة، ولذلك لم يعد من المستغرب أن نجد في العراق أن من أسسوا أركان النظام السياسي وكتبوا الدستور، يعلنون في كل يوم تمردهم على النظام، ولا يحترمون الدستور الذي لم يعد حاكما وإنما أصبح وسيلة للاحتجاج السياسي عند التخاصم.

وما دام من يحكموننا يعبرون في سلوكهم السياسي عن بغض للدولة ويفكرون في دولة تختلف عن الدولة بمفهومها المعاصر، ويتخيلون أن ديمومة حكمهم ونفوذهم هي في بقاء العمل خارج الدولة، فسنبقى بعيدين كل البعد عن حلم العيش في ظل الدولة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram