بإعلانه تحصين سلطته من أي مساءلة أو دعاوى قضائية وضع الرئيس المصري نفسه فوق القانون. أسقط حكم القانون وأعلن حكم الفرد. وجاءت هذه الخطوة المفاجئة بعد يومين من التوصل لهدنة بين اسرائيل و"حماس" كان لمصر الدور الرئيس في تحقيقها. وبرفضه الإنجرار الى "مواجهة مع اسرائيل" أثبت مرسي تعقله. لكنه بتعجله الدخول في "مواجهة مع الشعب" أكد حماقته.
"الإعلان الدستوري" الجديد تضمن تعديات خطيرة على القانون، أهمها اعتبار القرارات والقوانين الصادرة عن رئيس الجمهورية غير قابلة للطعن، وتحصين الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور من أي دعوى قضائية، واعادة محاكمة المتهمين بجرائم قتل واصابة الثوار، وأخيرا عزل النائب العام وتعيين بديل له. فالقرار الأول يجعل السلطة التنفيذية فوق القضاء، والقرارات الثلاثة الأخرى مخالِفة صراحةً للقانون.
وهذه هي أخطر مواجهة بين السلطة التنفيذية وبين السلطة القضائية في مصر منذ بدء المسيرة التصاعدية لاستقلال القضاء مع تولي الرئيس انور السادات الحكم عام 1970. كما أنها أخطر مواجهة سياسية مباشرة بين الاسلاميين، الذين يملكون زمام الحكم، وبين القوى المدنية. إنها المرة الأولى التي تدخل مصر فيها بصورة فعلية وجلية في طور"أزمة انقسام البيت".
وقد سبق لمرسي، الذي تولى الرئاسة في 24 حزيران الماضي، الاصطدام مرتين مع السلطة القضائية. الأولى بعد اسبوعين من توليه السلطة، عندما أصدر في 8 تموز الماضي قرارا بإلغاء حكم المحكمة الدستورية العليا القاضي بحل مجلس الشعب ذي الأغلبية الإسلامية (40 % للإخوان و20 % لحزب النور السلفي). ثم اضطر الى التراجع عنه، لتعارضه الصريح مع القانون الذي يعتبر أحكام الدستورية العليا نهائية وملزمة للجميع.
المواجهة الثانية جرت عندما أصدر قرارا بعزل النائب العام المستشار عبد المجيد محمود، في 11 تشرين الأول الماضي، مثيرا بذلك عاصفة قانونية أخرى، لأن القضاء يحصِّن منصب النائب العام من الإقالة. واضطر الرئيس الى التراجع أيضا عن قراره، وبقي النائب العام في منصبه، حتى جاء الاعلان الدستوري الأخير الذي أوصل انقسام مصر الى حال "شعبين في معركة".
هذه اذن هي المعركة الثالثة بين الرئيس وبين القضاء خلال خمسة اشهر من توليه السلطة. وقد هزم في المعركتين السابقتين، فكيف يتوقع الفوز في الثالثة، وهي الأخطر والأشمل من نوعها، لأن ميدانها جاوز الأسرة القضائية الى الشارع بجميع تمثيلاته المدنية أو العلمانية؟
ان بروز دور مرسي في مفاوضات الهدنة بين اسرائيل وحماس، والمباركة الأميركية الإسرائيلية خصوصا والدولية عموما لهذا الدور، ربما شجعاه على الإقدام على هذه الخطوة. ربما اعتبرهما تأمينا لغطاء دولي يتيح له "التفرغ" لمعركة الداخل. وقد أثبت الرجل، ومن خلفه "اخوان" مصر، قدرة اكبر من التي كان يتمتع بها نظام مبارك على احتواء "حماس" والتنظيمات المسلحة في قطاع غزة.
في كل الأحوال فان"الإخوان المسلمين" يجددون التأكيد بهذه المعارك القانونية والسياسية المتلاحقة والمتعجلة رغبتهم العارمة في الاستيلاء على سلطة مطلقة. فمرسي الذي يمتلك اليوم، بغياب دستور وبرلمان، السلطتين التنفيذية والتشريعية، يضع بهذا الاعلان السلطة القضائية تحت جناحيه، ويمهد لدستور "الحاكم بأمر الله" حسب تعبير محمد البرادعي. ولكنه فتح بذلك المجال أمام معركة "الدور الثاني" من الربيع العربي التي بدأت بالفعل.