حيدر المحسن
"النهاية الثانية" عنوان قصة للتكرلي تحكي عودة الجندي عبد الكريم الحاج مهدي إلى أهله، بعد أن قضى أكثر من ست عشرة سنة في الأسر، ذراعه اليسرى مشلولة وكذلك ساقه، مع ثغرة في وجهه وأخرى أعمق في صدغه، وشفة مندلقة وأنف مكسور. ما الذي تبقى من صورته الأولى عندما كان جندياً في الثامنة عشرة؟
عاد الأسير إلى الوطن ولم يعرف أحداً ولا عرفه أحد. لقد غيّب الموت الجيران وجيران الجيران، وبعد رحلة طويلة وأسئلة تؤدي إلى أخرى، وحوارات مع من بقي حيّاً وذا ذاكرة سليمة، أخبروه أن أخاه الأصغر (صادق) فارَ تنّوره وتراكمت الأموال لديه دون حساب؛ ابن العائلة الفقيرة صار تاجراً يملك قصراً في أرقى أحياء بغداد، والأمر الأخطر هو أن أخاه تزوج (وديعة) زوجته.
يأتي الأسير إلى قصر أخيه كي يعرّف عن نفسه، ويواجه كلّ بهرجة الثراء اللا محدود، أو ما يدعوه التكرلي "الثراء البليد الحيواني". يشكّ أخوه في أمره، فهو ميت منذ زمن طويل، أنزلوه إلى القبر بأيديهم ودفنوه وأقاموا له مجلس عزاء، فما معنى هذا الهراء؟ يوجّه الأخ أمره إلى حارسه (رجب) بأن يرميه خارجاً. لم يسنح له الوقت كي ينبس بكلمة أخرى، فقد احتواه ذلك (الرجب) بشكل غريب ورفعه ثم حمله كعصفور ميّت إلى الخارج، ولم يتركه إلا بعد عشرين متراً. مكث راقدا بسكون، يخزّه الألم في أنحاء مختلفة من جسمه. لم يخطر له قطّ أن يُعامل بهذه الطريقة من أهله. وأنهكه عندها تعبٌ عظيم لا قدرة للبشر على تحمّله، ولم يكن حائرا قدر ما كان يائسا من جدوى أيّ عمل.
تبعاً لأدب القبور، فإن أرواحنا تخوض أهوالاً عدّة عندما نلاقي حتوفنا، واختار التكرلي عنوان "النهاية الثانية" للقصة ليصوّر لنا موتاً غير ذاك الذي يتجرع مرارته بنو البشر. هنالك عذاب في الحياة يفوق ما في الموت من هوان وخسارة. كأنّ العالم كلّه تعاون من أجل أن يحوك بإتقان شديد أسباب نهاية الذين تتمسّك بهم الحياة، وتبعدهم عن المغادرة إلى دهاليز الآخرة، ويا ليتها لم تفعل؛ لأن سنينهم أو أيّامهم الباقية أفضل منها الموت، بكثير...
كتب التكرلي هذه القصّة بألم وحرارة عندما كان يعيش في تونس عام 2001، فهو لم يلتقِ بأحد من الأسرى العائدين إلى الوطن، ولنا أن نسأل عن المصدر الذي استقى منه شخصيّة عبد الكريم الحاج مهدي؟ في القصّة مشهد يصف الأسرى "وهم يخرجون بصخب من الحافلة الكبيرة، ومع الضوضاء المتفجرة من حوله وصرخات الفرح وهتافات الأهل والمستقبلين، تملّكته رغبة عنيفة وغريبة بالبكاء". الصورة منقولة من التلفزيون الذي كان يعرض مثل هذه المشاهد في تلك السنين: "ولكنها هذه الوجوه والسماء الحائلة والتراب والروائح المعطوبة والأرجاء والثياب والأصوات والهتافات". لقد حدثت قصص كثيرة في سنين الحرب عن زواج الأخ من امرأة الشهيد أو المفقود، لكن تهالك هذا الأسير المُفرط واستعراضه لنفسه بالبكاء، انتقل إلى الكاتب في لقطة عابرة على الشاشة البيضاء: "لم يهزّه أو يصدمه ألا يجد أحد في انتظاره يستقبله، فقد أعلمه قلبه بذلك قبل قليل. سار بمفرده، مسرعا بين الجموع المتراصة، والدموع تسيل سيلانا على خدّيه وتصل فمه وتشتبك في ثنايا لحيته".
قام التكرلي بإعادة إنتاج هذه اللقطة، راجعا بالأسير حوالي عشرين سنة إلى الوراء، وسائرا به إلى الأمام بضعة أيّام، حيث تنتهي القصّة. استطاع المؤلف أن يجمع أحداثا استثنائيّة، ويصوّر شخصيّات عاشت في أزمان مختلفة، بلمحة شاملة ووفق منظور عام لا يُربك القارئ، ومن دون أن يستعين بأهمّ أدوات القصّة، وأقصد به الخيال. في جميع قصص الحرب العظيمة نجد هذه الظاهرة، فالخيال محدود وسط هذا الجحيم، ويبدو أن لا موهبة لها القدرة على صنع ثيمة واحدة من تلك التي تكون فيها لفوضى الخيال اليد الطولى، تقوم بتأليف أشدّ أنواع الفجائع في حياة البشر.