اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > قضية للمناقشة: ما هي مشكلة الروائي العراقي؟

قضية للمناقشة: ما هي مشكلة الروائي العراقي؟

نشر في: 24 فبراير, 2024: 10:42 م

نوزاد حسن

قبل اكثر من خمسين عاما طرح جبرا ابراهيم جبرا وجهة نظر مهمة جدا لم تاخذ حيزا جيدا لمناقشتها.لكني اعتقد جازما ان دراسة "الرواية العربية والموضوع الكبير"

المنشورة في كتابه الرحلة الثامنة واحدة من اهم الدراسات التحريضية التي تدفعنا للتفكير جيدا في وضع الرواية العراقية على اقل تقدير.وانا اعرف ان الحديث عن الرواية العراقية سيزعج البعض ممن يعتقدون انهم يكتبون روايات حقيقية.وقد احس جبرا,بالحرج فتحدث بصورة عامة عن روايات تنشر بكثرة دون ان يكون لهذه الروايات اية اهمية.يقول جبرا"فالرواية لدينا ما زالت لا تؤخذ ماخذ الجد من الروائي,وما زال طابعها الاوضح طابع اللهو والتسلية"(1).

يعتقد جبرا ان الرواية العربية ينقصها الموضوع الكبير,ويعني جبرا بالموضوع الكبير في النهاية"هو موضوع مأساوي.انه الموضوع المنبثق عن حس الانسان الماساوي بالحياة"(2)

ثم يقدم جبرا تعريفا للماساة بحسب ارسطو فيقول"انها تصوير الفرد وهو يجابه القوى الكبرى".(3)

يعرف جبرا جيدا ما يتحدث عنه,ويدرك مدى صعوبة قول مثل هذا الكلام.لكنه يصر على ان الرواية العربية ما عدا استثناءات قليلة لم تقدم نموذجا يستحق ان يقال عنه رواية.

لن اطيل كثيرا في الاقتباس من كتاب جبرا الرحلة الثامنة لاني اعرف مدى انزعاج القاريء من النقل المتكرر لكني اود الاشارة الى ان ما ذكره جبرا عن الموضوع الكبير وعلاقته بالرواية سيكون بالنسبة الي مدخلا ضروريا لمناقشة بعض الافكار الخاطئة التي يتمسك بها الكتاب مثل دور التقنية في عملية الكتابة,وعدم وضوح معنى كلمة الخيال عند اغلب الروائيين,وسهولة الكتابة وكأن الروائي تعلم ان يكتب بطريقة تشبه صاحب مهنة بسيطة يعمل في سوق بغدادي.

اتفق كليا مع ما قاله جبرا,وان كنت لا اشك في ان قضية الموضوع الكبير التي كتب عنها جبرا تشغل الفكر الغربي على مستوى النقد الادبي والفلسفة وحتى علم النفس.فهل هناك ما هو اكثر تاثيرا من صراع الانسان الفرد لقوى تواجهه,وتهدد مصيره.ومع ذلك فأنا اظن ان ما سمي بالموضوع الكبيرهو خطوة نحو موقف اصيل تتخذه الذات لتتغير.اما النقطة التي لا يمكنني مغادرتها هي ان وجهة نظر جبرا تكونت بسبب اطلاعه على الفكر الغربي,ورصده لقضية الموضوع الكبير التي كما قلت تشغل الفكر الغربي عموما وكأنها قضية مصيرية.وهنا حاول جبرا ان يطبق هذه الفكرة الرائعة على الرواية العربية التي تكاد تفتقر الى الاقتراب من الموضوع الكبير.وفي محاولة جبرا هذه اي تطبيق مبدا ارسطو عن المأساة,ونقد الرواية العربية من خلاله حماس واضح لفتح عين الروائي على حقيقة وجوده قبل اي شيء اخر.وقد اشار جبرا صراحة الى ان قضية فلسطين لا بد ان تكون ضمن هموم الكاتب الروائي.لذا اراد جبرا وهو يتحدث عن الموضوع الكبير دفع المثقف الى الانتباه لقضية خطيرة تتعلق بمصير الشعب الفلسطيني.وانا اتساءل هل خالف جبرا مبدأ ارسطو حين تحدث عن المأساة وانها مجابهة الفرد لقوى الكون لما وسع الناقد الكبير وجهة نظره لتجعل الروائي يخوض في قضية شعب فلسطيني مهجر.من جهتي لا اجد حرجا في توسيع مفهوم الموضوع الكبير الى حد جعله يشمل صراع شعب ضد احتلال اراضيه.وان كنت ارى ان هناك صراعا داخليا يحدث في اعماق المثقف خصوصا والانسان عموما تجعله في حالة انهيار تام,ووجهة نظري هذه لا تعبر عن حالة جنون او صعلكة كالتي شاهدناها في بعض صعاليك بغداد من الشعراء.انا اتحدث عن لحظة مصيرية يشعر فيها الانسان انه مهدد وضعيف وليس عنده اداة تساعده على السيطرة على الواقع.بكلمة واحدة:يحس الانسان الحقيقي انه بلا عون,وعليه ان يعيش حياته في هذا الجو المربك,اعني شعوره بانه عاجز عن الفهم اي فهم ما يدور حوله.

لكن ما علاقة مبدأ الماساة كما تحدث عنه ارسطو,وكذلك ما سماه جبرا بالموضوع الكبير ما علاقة كل ذلك بالرواية العراقية.اقول:ان الرواية العراقية تعاني من نقص واضح في هذه القضية.وانا احب ان استخدم كلمتي او مصطلحي في هذا الصدد.تفتقر الرواية العراقية الى قضية كبرى تؤرق الروائي,وتجعله كائنا اخر.وانا لا اتحدث هنا عن قضية منطقية عقلية وانما اشير الى قضية من نوع اخر.دعوني اسميها بالقضية النفسية لانها ترتبط بوجهة نظر الروائي,عند هذه النقطة تحدث الصدمة الحقيقية.يشعر الروائي ان عقله لا يعطيه اية افكار مهدئة.في حالة الصراع هذه يتوقف العقل عن العمل.ويرى الروائي ان الواقع صار عالما متنوعا وغير خاضع لتاويل محدد او تفسير عقلي يضبطه.لأقل تبدأ القضية النفسية او الكبرى بمهاجمة الروائي حين يشعر بانه فقد قدرته على تفسير العالم واخضاعه كمن يفقد حاسة شمه.الحالة مشابهة,فاذا فقد عقل الروائي حاسة شمه فسيدرك انه في مأزق,وهنا بالذات تبدأ القضة الكبرى بالعمل.انها تصنع لنا رواية حقيقية.

ما فات جبرا كما اظن هو تجاوزه تفسير هذه المحنة النفسية تجاوزا كاملا.فالروائي انسان في النهاية,وما يهز جبروت هذا الانسان فقداته ليقينه العقلي الذي يجعل هذا الواقع يبدو واضحا عنده,ومسيطرا عليه ايضا.

استطيع القول ان الرواية العراقية تعاني من هذا النقص الجمالي الذي تحدثت عنه قبل قليل.ستسالونني:هل تقصد جميع ما كتب من الرواية.اقول لكم:لا.الا انني انتظر ان اقرأ رواية بمواصفات خاصة,تحمل قلق القضية الكبرى التي تقلب كيان الانسان,وتجعل لغته قريبة منا,بل سيكون النص المكتوب نصا يحمل ملامحنا,ويتحدث عنا.

هناك في الواقع نقطتان تدلان على ان الروائي العراقي هو شخص هاديء جدا ومتصالح مع حياته,ولا يعاني من اية مشكلة عقلية.

النقطة الاولى:خطيرة جدا وتعكس مدى ابتعاد هذا الروائي عن حياته وواقعه,وصراعه النفسي.تتعلق النقطة الاولى بانشغال الروائي بقضية التقنية ودور هذه التقنية.لنتوقف قليلا عند هذه النقطة.

حين يتحدث الروائي عن خبرته في كتابة الرواية ستلاحظون حقيقة مهمة.يظن هذا الروائي انه يغيرنا اذا تحدث عن تقنيته التي استخدمها لجعل روايته مقنعة ومؤثرة.هذا الروائي يهتم بقضية نقدية هي:كيف اروي او كيف احكي.انه كما تلاحظون يهتم كثيرا بالشكل بالاطار الخارجي فقط.وبعد ذلك ياتي الناقد ليكتب عن اسلوب سردي ذكي,وتقنية اعطت للرواية جماليتها وعفويتها.ان المشكلة التي تحدث هنا هي هذا المرض الخطير:تغيير القضية الكبرى الانسانية ووضع التقنية محلها.بمعنى يصبح الشكل هو الاهم.وهذا ما اسميه "بالبدعة الستينية" التي ساتحدث عنها في مكان اخر.

التقينية بهذا المعنى اصبحت غاية,واصبحت مسالة تعلم وتقليد.ومن السهولة بمكان ان يقوم الروائي بغزو الرواية الغربية ويسطو على ادوات هذا الروائي او ذاك ثم استخدامها لاقناعنا بانه كتب رواية تصورنا,وتصور حياتنا.

مشكلة الحكي او كيف احكي دمرت الرواية العراقية,وصنعت لنا روائيا يصدق لعبته,ويؤيده النقد,والورش النقدية ومقالات الصحف والدراسات الاكاديمية التي تنشغل دوما بقضية السرد والتقنية دون الاهتمام بالقضية الكبرى في لونها الانساني.وكما اظن فهناك شيء قبل التقنية هو:نسف اية يقينيات تخدع الروائي.وهذا ما ادعوه بمشكلة الروائي العراقي.

هذا ما يتعلق بالنقطة الاولى,وهو في اعتقادي نقد لا بد من التوقف عنده,ثم تاتي النقطة الثانية تكمل ما تحدثت عنه قبل لحظات.

يعشق الروائي العراقي اعماله عشقا كبيرا.انها هويته.وياتي هذا التقدير الذاتي من احساسه بانه استاذ في التقنية.بمعنى انه حرفي في مهنة اللغة.يعرف كيف يشكلها,ويتلاعب بها محولا اياها الى بناء لغوي يصفنا.ان الروائي العراقي يظن انه يمنحنا الخلود لانه قام بوصف بطل او شخصية من خلال روايته.لذا يطلق الروائي على اعماله بانها منجز يعتز به,بل هو ينظر اليها على انها ابناء له انجبهم بشكل فردي.ومفردة المنجز مرعبة لو حاولنا فهمها تحت مجهر قضية الرواية الكبرى التي اشرت اليها قائلا انها لحظة تنتهي فيها كل الافكار واليقينيات,ويبقى الروائي وحيدا اعزل بلا سلاح عقلي يسيطر به على الواقع والحياة بكل اتساعها.

بالتاكيد سيكره همنغواي كلمة المنجز ويلعنها,وهكذا سيسخر ماركيز من هذه المفردة.سيفضل همنغواي مفردة اخرى كان يقولها حين يصدر رواية جديدة.لم يكن يقول بانها منجزي بل يقول همنغواي بانها اسد ميت.وهذا الوصف الغني برمزيته يفتح المجال امامي للقول ان الاسد الميت تعني مشكلة شخصية لدى همنغواي.وبدون هذه المشكلة سيبقى الروائي مخدوعا بتقنيته ولعبته الشكلية.

------------

1 - الرحلة الثامنة,جبرا ابراهيم جبرا,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,طبعة ثانية,ص71

2 - المصدر نفسه ص70

3 - نفسه ص71

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram