اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في أقلمة الأدب العربي للحكاية الرافدينية

في أقلمة الأدب العربي للحكاية الرافدينية

نشر في: 24 فبراير, 2024: 10:43 م

د. نادية هناوي

ذهب دياكوف الى أن القرن الثاني عشر قبل الميلاد شهد بداية تغلغل القبائل من الجزيرة العربية في بابل واستقرت في مشاعات عشائرية تحول بعض منها إلى مشاعات جوار.

وكانت بابل قد شهدت أيضا طيلة هذه الحقبة اختلاطا بين عناصر مقيمة وأخرى راحلة وهي سلالات القبائل المؤسسة على العشير. فكان تأثر العرب– كما نرى- بالحكاية الخرافية التي جاءتهم من بلاد الرافدين أمراً طبيعيا بعد تلك الهجرات الاستيطانية إلى مناطق كانت تزخر بموارد طبيعية جعلتها موضع جذب فسكنت القبائل العربية في مناطق متاخمة لصحراء نجد والحجاز كالحيرة مثلا وفيها أسس العرب - وفي مرحلة متأخرة من حكم الدولة الساسانية - سلالة حاكمة تمثلت في دولة المناذرة، هذا إلى جانب ما حصل قبل الاسلام بحقب عدة من شق طرق تجارية سلكتها قوافل العرب قادمة من اليمن إلى الشام وبالعكس. أما ما ذهب إليه اوليري من أن التوسع العربي لم يكن نتيجة(ضغط الجوع الناتج عن جفاف الجزيرة العربية كما لم يكن نتيجة الحميّة الدينية بل كان بكل بساطة بسبب ضعف القوة التي حاولت أن تقف سداً في وجوههم). فنراه يجافي حقيقة ما كانت عليه جغرافيا المنطقة من وضع نمائي جاذب نراه هو السبب الرئيس وراء انتشار نفوذ العرب في العراق أما ضعف الدولة الساسانية واضطرارها إلى الاعتراف بالعرب فربما كان في مرحلة معينة من تلك الحقب الكثيرة التي شهدت هجرات عربية متتالية نحو الشمال.

وقد ساهمت الهجرة أولاً ثم تأسيس الدويلات ثانياً في أن يتأثر العرب بأدب الاقوام المجاورة في وادي الرافدين، أكثر مما تأثروا بديانات هذه الاقوام ومعتقداتهم. ولقد افترض اوليري قلة اكتراث العرب في ما قبل الإسلام بالتفكير الديني فقال:(إن العرب القدماء قبلوا فكرة إله واحد متعال ولكنهم قليلا ما فكروا به إذ أنهم لم يكونوا ليعتبروا الإله المتعالي متدخلا في شؤونهم ومصالحهم الشخصية المعلقة بالآلهة القبلية الصغرى.. والتي كانت تُعذَل عذلا موجعا حينما يتبينون أنها تهمل مصالح مواليها. ولم يكن رجل الصحراء ليميل بأفكاره المتسامية إلى الله كما لم يكن له أي احترام للآلهة الصغار) وربما ايضا لأن العربي وبحكم معيشته الصحراوية غير المستقرة لم يكن طامحاً بالمدنية لأنه لم يرد التخلي عن مشاعيته البدوية كما لم يكن يسعى إلى تعلم الزراعة أو ممارسة الرعي ولا التدرب على الحرف اليدوية والصناعية التي عرفها أهل وادي الرافدين، بل كان يبحث عما يلبي رغبته في التعرف على فنون قولية تدعم ما عرف به من بلاغة وفصاحة وتساير ما لديه من مواهب أدبية. وعلى الرغم من أن العرب آنذاك لم يكونوا مهتمين بالكتابة وفن الخط، فإنهم ايضا كانوا معروفين ببراعتهم في البلاغة كفن قولي لم يكن يجاريهم فيه أي قوم من الأقوام المجاورة.

وصحيح أن أدب بلاد الرافدين كان متنوعاً في فنونه القولية، فكان السرد والشعر حاضرين بأشكال رثائية وبطولية وحكمية، بيد أن الحكاية الخرافية كانت هي الأصل. فتأثر بها الحكاء العربي لقربها من نفسه في التعبير عن قسوة الطبيعة وضنك الحياة في ما كان يواجهه أبناء قومه من صعوبات في تنقلاتهم بحثاً عن الكلأ والماء.

وإذا كان للبينة السردية للحكاية الخرافية أن تتطور في الأساطير شعرياً، فإن العرب تأثروا بالاثنين معا فأخذوا من الحكاية الخرافية شكلها الحكائي الشفاهي كما أفادوا من الأسطورة في شكلها الملحمي الشعري. واتضح هذا التأثير على المستويين: المستوى الديني من ناحية علاقة الإنسان بالأشياء من حوله ضمن زمان ومكان غير محددين مع وجود حكاء ظاهر وسارد عليم، والمستوى الأدبي من ناحية إدخال الحكاية في القصيدة بكل ما فيها من الخرافية ومن ناحية السعي الى بناء القصيدة الطويلة او المعلقة.

أما لماذا ارتكن العرب إلى الحكاية الخرافية أكثر من غيرها من الفنون القولية حتى غدت جزءاً من حياتهم الأدبية قبل الإسلام، فلحاجتهم إلى التسامر وقضاء الليل الطويل حين يستقر بهم الحال ويكونون أحوج إلى الاطمئنان الروحي الجماعي ومن هنا صار السرد ليليا بعكس الشعر الذي هو نهاري يلبي متطلبات حياتية أخرى تتعدى التسامر والاطمئنان.

وعرف العرب حكايات الفأل والنبوءة والمراثي التي عرفها الادب الرافديني، وتجلت هذه النصوص على مستوى الموضوعات والإيقاعات التي جاءت من تلقاء هذا الواقع، فكان الحداء أقدمها وحاكى لوعة فقد الديار والبكاء على الأطلال بالانتقال إلى مكان ليس لهم فيه ذكريات. ولقد تركت النهارية على الشعر بعداً رسمياً وجدياً، فالإلهام الشعري وانشاد القصيد أمر خاص لا يقوله إلا ذوو دربة بينما اكسب الليل الحكايات بعداً روحياً طقسياً كأمر عام ومعتاد عند الجميع مبدعين ومتلقين وينتهي مع بزوغ شمس الصباح.

وكان من تبعات الجدية في نظم الشعر أن صارت له قواعد ونظام وغدا ذا أهمية مجتمعية، ينشد أمام علية القوم وتقام له الأسواق، وصار الشاعر هو الناطق الرسمي باسم القبيلة واستمر هذا الحال العام حتى غدا الشعر ديوان العرب كما صارت له الأولوية في التدوين فالقصائد أقل بكثير مما كان معروفاً من حكايات كما أن النظام الموسيقي للشعر سهّل عملية التدوين بعكس الحكاية التي كانت تشهد إضافات أو تغييرات مستمرة فلم تبق على حالة واحدة.

ونهارية الشعر جعلت للشاعر راوية ينقل شعره كي لا يضيع أو يُنسى وحين وجد علماء الشعر في القرن الثاني للهجرة أن رواة الشعراء لم يعد يؤدون مهمتهم في حفظ ديوان الشعر قاموا بتدوين القصائد كما في المفضليات والاصمعيات كما دونوا أشعارا باسم القبائل بينما ظلت الحكاية الخرافية والشعبية بلا تدوين لأنها محفوظة في الذاكرة الجمعية شكلا ويتم تداولها شفاها فضلا عن كونها محكية شعبيا ولها تقاليد معروفة ومن ثم هي عرضة للانتقال المستمر والتغير في موضوعاتها وبحسب ما يريده ساردها منها.

ولعل تدوين الشعر ووجود رواة له بعكس السرد هو ما جعل كثيراً من الباحثين الأجانب والعرب يتصورون أن العرب أمة شعر وأن تاريخهم الأدبي يبدأ مع الجاهلية وهو عبارة عن قصائد بها عبروا عن شؤونهم الأدبية والاجتماعية والاقتصادية. أما حاجتهم إلى السرد فلم تكن إلا بعد قرنين من مجيء الإسلام حين نقل إليهم ابن المقفع حكايات(كليلة ودمنة) فتأثروا بها وصاروا يسردون حكايات على غرارها!!.

وهذا وهم كبير يجافي الافتراضات التاريخية كما يتعارض مع منطق الأشياء وحاجات الإنسان الفردية والجماعية. ولعل الذي ساهم في ترسيخ هذا الوهم الفصل المنهجي ما بين المصنفات القديمة التاريخية والأدبية حتى بدا التراث الأدبي العربي تراثاً شعرياً. وغدت الكتب التي تُعنى بتاريخ الشعر العربي أكثر بكثير من الكتب التي تُعنى بالسرد القديم ولا أحد اهتم بتتبع مراحله وإبراز أساليبه مع أن للسرد العربي نظاما عاما ومعروفا.

ولا خلاف في أن شعوب الشرق عامة والشرق الأوسط خاصة ما كانت تعيش في جزر أو أكوان نائية، ولقد تأثر الإغريق بملحمة جلجامش فكتب هوميروس ملحمتين بعد أن مرَّ ببابل وسمع ما بها من ملحمة قومية تتغنى ببطل واحد ينتمي إليه شعب هذه البلاد ثم أن العرب لم يكونوا غير مبالين بما ظهر في منطقتهم من ديانات توحيدية وما بعث فيها من أنبياء ورسل وما تعرضت له أمم قبلهم بسبب كفرهم من عقاب، بل كانوا جزءا من هذه المنطقة. فتأثروا بآدابها ومنها أدب وادي الرافدين تماما كما تأثر به الكنعانيون والآراميون وفي زمن لاحق الفرس ثم الهنود لا كما يذهب البحاثة الغربيون الذين يحجِّمون دور العرب الديني والأدبي حين يستبعدون هذا التاريخ أو حين يقصرون معرفة العرب للسرد بناءً على تأثرهم بحكايات (ألف ليلة وليلة)، متداولين مقولة(أعذب الشعر أكذبه) لما تعكسه هذه المقولة من سيادة وجهة نظر أخلاقية تجاه الحكي وأن أحسنه ما كان صادقاً فضلا عن تأكيد هيمنة الشعر على العرب.

وهو أمر يدحضه ما أكده النقاد القدماء من أن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، ولكن لم يحفظ من هذا المنثور إلا عشره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram