اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > وداعًا جوليا.. تلويحةٌ للوطن الانسان

وداعًا جوليا.. تلويحةٌ للوطن الانسان

نشر في: 29 فبراير, 2024: 12:56 ص

علي الياسري

مفارقة مريرة ان يكون الكذب هو اساس المصداقية السردية والصفاء الشعوري الذي تحمله جنبات الدراما الروائية لفيلم وداعًا جوليا. اول افلام المخرج محمد كردفاني الطويلة يضع لبنة اخرى على طوب جدار السينما السودانية الجديدة المُندفعة بقوة الى الواجهة العالمية في السنوات الاخيرة بإنتاجات اتسمت بالنضج الفني والتماسك القصصي والوهج العاطفي.

موجة سينما حديثة هي وجه اخر للثورة السودانية الرافضة للواقع السياسي كإطار عام يتجذر في اشتباكات اجتماعية تتأسس على نظرات مخفية موروثة تتعلق بالعرق واللون والغنى والفقر والوعي والجهل ولا تنتهي بالدين واشكالاته حيث يكمل الدائرة بتجاذبات غالبًا ما تخلُص لصراع عسكري يتأسس على فعله واقع جديد يديم حالة التشظي والارتباك. المفارقة المُبكية ان كل هذا النزيف الانساني ليس سوى افعال قلة تتطرف في اراءها وردود افعالها ليعم بسبب ذلك الخراب فيتغلب الشر بقوته التدميرية على جوانب الخير المسالمة حيث تتنحى لسبب او اخر امام تداعيات الفعل السيء. وهذا ما يفتتح الفيلم صورته عليه.

ينطلق كردفاني من سمة الكذب لبناء هيكل فيلمه كنتيجة تترتب على ما تقدم من افكار عامة اجتماعية وسياسية تتسع مساحتها الخاصة من الفرد الى المجموع بحركة فنية رشيقة تمتلئ بغنى تعبيري يَسقي فيه كل فعل درامي لوحته البصرية، ويتغذى البوح السينمائي على تلك الرمزيات التكوينية التي تأخذ من عناصر المشهد والبيئة المكانية حكايتها لتستكمل شكل نغمتها في لحن الوجود ضمن جدران الوطن المنزل المُتشظي لشطرين بفعل تراكمات السياسة والعنف غير انه يتمسك بوحدته واواصر التلاحم العاطفي في وجدان الانتماء الفردي للبشر والارض. انه الصدق الباحث عن هويته الوطنية الانسانية بين ركام التناحر من خلال المشتركات الادمية التي تميز وجودنا على هذا الكوكب. جوليا ومنى هما رمزان للسودان بجنوبه وشماله المنفصلان كخلاصة ظاهرية لاستفتاء جاء الفراق محصلة لنتيجته الساحقة، والمرتبطان باطنًا بسبب مشتركات الالفة والعيش ضمن حيز واحد والانتماء الخفي الذي تجلى لحظة البعاد كما في سلسلة مشاهد الختام حين لم تكتفي بتأطير التيار العاطفي للتواصل السري غير المنقطع بل ألمحت بذكاء ايضا الى طبيعة الصراعات القادمة المبنية على تراكمات الاخطاء والمتولدة نتيجة عدم تحقيق العدالة بأدنى درجاتها.

الرشاقة السردية التي يتنقل فيها الفيلم بين اوجه الكذبات العديدة وحركتها من الشخصي للعام يُتيح للمشاهد ان يدرك ان الخيط الوهمي الفاصل بين الصدق والخداع لا يرتبط سوى بمعايير اخلاقية ينمو بموجبها الضمير ما يسمح للشخصيات باكتشاف ذواتها قبل ان يدركها المُتلقي. لم تكن منى وحدها المُستمرئة للكذب –تنفتح قصة الفيلم على منى وهي تكذب على زوجها بشأن البيضة المقلية التي احترقت- كي تحافظ على مظاهر ارتباط زائف ووحدة عائلية غير مستقرة شعوريًا، بل جوليا كذلك في السياق الشخصي من اجل عيش مُستقر لها ولطفلها قبل ان تتسع هذه المنهجية السلوكية في كل مرة للاطار العام المُتجسد في افعال المجتمع ومؤسسات الدولة.

يبرز الفيلم قوة تعبيرية بصرية رائعة ادارها بذكاء مدير التصوير بيير دو فيلييه تحاول جاهدة تأطير الافعال والسلوكيات والاحداث والتداعيات بلمحات فنية تحضر بلقطات مميزة تربطها بفطنة مونتاجية سلسة المونتيرة هبة عثمان لإظهار المخفي من التعقيدات لتفاصيل الشؤون السودانية عند لحظة فارقة هي الفترة التي تلت معاهدة السلام ثم مقتل جون قرنق والاضطرابات والاحتجاجات الغاضبة حتى تصل الى لحظة الاستفتاء فالتصويت على انفصال الجنوب. كان الفطور المحترق تنويه فني بقوة فعل الصورة وإشعار درامي مبكر عن معضلات صعبة قادمة. العصفور في القفص كناية عن حال الشخصيات الفردي الجواني وهي الاسيرة لواقعها المأزوم بمشاكلها المتنقلة من القمع والحرية الى المصاعب الاقتصادية والملاذ الامن ثم العام الظاهري المُتَفتق على مشاكل سياسية واجتماعية وعرقية ودينية. السيارة حين تدهس بسبب لحظة ارتباك فتتسبب بكارثة. الدراجة النارية التي تسير بجنون كرد فعل وتعبير عن لحظة غضب ستنتهي بمأساة. لوح الشطرنج وقطعه التي ينحتها اكرم ليُعَّلم بمفارقة اخرى ابن من اعتقده خصمه في لحظة ما على صناعتها والذي سيكون مآل مصيره هو خاتمة مفتوحة للفيلم. الخط الدرامي السياسي للاحداث سيشتبك بقوة مع المسار السردي الاجتماعي للوقائع وانعكاساته التي يعيشها السكان ولا تنقلها بالضرورة القنوات الاعلامية. من هنا يلتحم العام بأجواء الحكايات الشخصية وتشعباتها ضمن اطار المنزل فينطلق من حكاية العلاقة بين منى وجوليا اثناء الفترة الانتقالية بين العامين 2005 و 2011 حين تجمعهما الاقدار تحت سقف واحد يعكسان وجهين للحقيقة والزيف حيث يتبادلان الدور بينهما حسب طبيعة الظرف، وتبرير الكذب سيرد على لسان منى ردًا على تساؤل جوليا ان الناس لا ترغب بسماع الصدق. صورتان نشأ وجودهما من كذبة وشعور بالذنب لينتهي بافتراق موجع لا يرغب فيه الطرفين. لكن وكما يقال في المثل العربي فقد سبق السيف العذل حين التهمت نار الغضب بسبب التاريخ المتراكم من اخطاء التنكيل والاضطهاد وقصور الوعي والرؤية للاخر كل عواطف البقاء معا حيث التوق للصدق الغامر للاحاسيس. فالكذب المتحرك على خطوط الحكاية بتنوعاته حسب كل حدث يسمح للشخصيات بالنجاة الوقتية غير انه بالمحصلة سيكون اول الخطوات نحو نهاية موجعة تغدو فيه النفوس اسيرة ألم عاطفي ترى من خلاله اخطائها الفادحة فترفضها بشدة غير انها لا تقدر على العودة لأن لحظتها قد فاتت.

كانت الاغاني والموسيقى التصويرية التي وضعها الفنان مازن حامد تظهر بتوقيتات محسوبة وفق معطيات درامية مبررة لتقديم صورة عن المشتركات الثقافية والمنهل التراثي الشعبي، جسرًا متينًا نحو ارتباط عاطفي من الصعب كسره، ووحدة مختبئة تحت طيات الفعل الانساني السامي، فضلًا عن ضرورتها التعبيرية كسبب محطم لقيود التشدد والتَزّمت الواقعة تحت نيرها منى الموهوبة بالغناء.

يُثبت المخرج محمد كردفاني بباكورة افلامه الطويلة وهو القادم الى السينما من عالم الهندسة دون ان يمر بدراسة اكاديمية تقليدية للفن السينمائي ان الموهبة الذكية وصقلها بالواقع العملي هي جواز المرور لتقديم نتاجات فنية جديرة بالتقدير، وإن احدى اكبر ازمات السينما لدينا في العالم العربي كمنتج هي الالتهام الاكاديمي والتنظير السطحي لأشباه المواهب. فأدارته الواعية للممثلين مثلًا سمحت للمشاهد ان يرى كيف استطاعت وجوه جديدة تؤدي ادوار رئيسية مثل ايمان يوسف وسيران رياك الاندماج بشخصياتهما والعثور على المخبوء من الجانب الاخر لمنى وجوليا وعرضه بصدق تمثيلي على الشاشة، ناهيك عن جودة ممثلي بقية الادوار.

بين جوليا ومنى آصرة وطن وشعور انتماء ولمحة من انسانية مفقودة تأسست على كذب واعي نجح في العبور الى صدق العواطف بلحظة اصبح الفراق فيها حتمي ليكون (وداعًا جوليا) لقطة فوتوغرافية ساكنة بوجدان امة في فاصل تاريخي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

النجم غالب جواد لـ (المدى) : الست وهيبة جعلتني حذراً باختياراتي

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

معاهد متخصصة فـي بغداد تستقبل عشرات الطامحين لتعلم اللغة

متى تخاف المرأة من الرجل؟

مقالات ذات صلة

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!
سينما

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

يوسف أبو الفوزصدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن… المرأة.. الحياة)، يورد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram