أمبرتو إيكو
ترجمة: لؤي خزعل جبر
على الرغم من الغموض المرتبِط بالفرق بين الأشكال التاريخيَّة المُختلفة للفاشيَّة، أعتقد أنَّه من المُمكن تحديد قائمة من السمات النموذجيَّة لما أود أن أسميه الفاشيَّة الدائمة Ur-Fascism، أو الفاشيَّة الأبديَّة Eternal Fascism. ولا يمكن تنظيم هذه الميزات في نَسَق؛ فالكثير منها مُتناقِضَة، كما أنها نموذجيَّة لأنواع أخرى من الاستبداد أو التعصُّب. لكن يكفي أن يكون أحدها حاضراً حتى تتجمَّع الفاشيَّة حوله.
1. السمة الأولى للفاشيَّة الدائمة هي عِبادة التقاليد the cult of tradition. والتقليديَّة بالطبع أقدم بكثير من الفاشيَّة. ولم تكن هذه الفكرة نموذجيَّة للفكر الكاثوليكي المُضاد للثورة بعد الثورة الفرنسيَّة فحسب، بل وُلدت في أواخر العصر الهلنستي، كرد فعل على العقلانيَّة اليونانيَّة الكلاسيكيَّة. ففي حوض البحر الأبيض المتوسط، بدأ الناس من مختلف الأديان (معظم الأديان التي يقبلها البانثيون الروماني) يحلمون بالوحي المُستَلَم من فجر التاريخ البشري. هذا الوحي، بحسَب السِحر التقليدي، ظل لفترة طويلة مخفيَّاً تحت حجاب اللغات المنسيَّة، في الهيروغليفيَّة المصريَّة، وفي الرونيَّة السلتيَّة، وفي لفائف الديانات الآسيويَّة المجهولَة. وكان على هذه الثقافة الجديدة أن تكون توفيقيَّة. والتوفيقيَّة ليست فقط، كما يقول القاموس، "مزيج من أشكال مختلفة من المُعتقد أو الممارسة"؛ وإنما مثل هذا المزيج يجب أن يتقبَّل التناقضات. إذ تحتوي كل رسالة من الرسائل الأصليَّة على قطعة صغيرة من الحكمة، وعلى الرغم من أنها تبدو وكأنها تقول أشياء مختلفة أو غير متوافقة، إلا أنها جميعاً تلمح - بشكل مجازي - إلى نفس الحقيقة الأوليَّة. ونتيجة لذلك، لا يمكن أن يكون هناك تقدم في التعلُّم. إذ تم بالفعل توضيح الحقيقة مرة واحدة وإلى الأبد، ولا يسعنا إلا أن نستمر في تفسير رسالتها الغامضة. وإذا كنت تتصفح الرفوف التي تحمل علامة العصر الجديد في المكتبات الأمريكيَّة، يمكنك أن تجد هناك أيضاً القديس أوغسطين Augustine، الذي - على حد علمي - لم يكن فاشيَّاً. لكن الجمع بين القديس أوغسطين وستونهنج Stonehenge أحد أعراض الفاشيَّة الدائمة.
2. التقليديَّة تعني رفض الحداثة the rejection of modernism. كان كل من الفاشيين والنازيين يعبدون التكنولوجية، في حين يرفضها المفكرون التقليديون عادة باعتبارها إنكاراً للقيم الروحيَّة التقليديَّة. ومع ذلك، على الرغم من أن النازيَّة Nazism كانت فخورة بإنجازاتها الصناعيَّة، فإن مديحها للحداثة لم يكن سوى سطح من الأيديولوجية القائمة على الدم والأرض. وكان رفض العالم الحديث متنكراً بصورة دحض لأسلوب الحياة الرأسمالي. ويُنظر إلى التنوير Enlightenment، عصر العقل، على أنه بداية الفساد الحديث. وبهذا المعنى يمكن تعريف الفاشيَّة الدائمة بأنها اللاعقلانيَّة irrationalism.
3. تعتمد اللاعقلانيَّة كذلك على عبادة الفعل لذاته the cult of action for action's sake. فالفعل جميل في حد ذاته، ويجب أن يتم قبل أو بدون تفكير. والتفكير شكل الضُعف emasculation. ولذلك فإن الثقافة مشكوكَة بقدر ما تتطابَق مع الاتجاهات النقديَّة. ففقدان الثقة بالعالم الفكري كانَ دائِماً أحد أعراض الفاشيَّة الدائمة، من ولع هيرمان جورينج Hermann Goering بعبارة من هانز جوست Hanns Johst في مسرحيته ("عندما أسمع كلمة ثقافة، أتناول بندقيتي") إلى الاستخدام المتكرر لتعابير مثل "المثقفين المنحطين"، و"العارفين"، و"المتكبرين الفاشلين"، و"الجامعات أعشاش الحُمر". وكان المثقفون الفاشيون الرسميون منخرطين بشكل أساسي في مهاجمة الثقافة الحديثة والمثقفين الليبراليين بسبب خيانتهم للقيم التقليديَّة.
4.الروح النقديَّة تصنع التمييزات distinctions، والتمييز علامة الحداثة. وفي الثقافة الحديثة، يُشيد المجتمع العلمي بالاختلافات disagreement كوسيلة لتحسين المعرفة. وبالنسبة للفاشيَّة الدائمة، فإن الاختلافات خيانة.
5. الاختلاف علامة على التنوع diversity. والفاشيَّة الدائمة تبحث عن الإجماع من خلال استغلال ومفاقمة الخوف الطبيعي من الاختلاف. فالنداء الأول للحركة الفاشيَّة أو الفاشيَّة المُسبَقَة هو النداء ضد الدخلاء. ومن ثم فإن الفاشيَّة الدائمة هي عنصرية بالتعريف.
6. الفاشيَّة الكاملة تنبع من الإحباط الفردي أو الاجتماعي individual or social frustration. ولهذا السبب، كانت إحدى السمات الأكثر نموذجيَّة للفاشيَّة التاريخيَّة هي مناشدة الطبقة المتوسطة المُحبطة، وهي طبقة تعاني من أزمة اقتصاديَّة أو مشاعر الإذلال السياسي، وتخشى ضغوط الفئات الاجتماعيَّة الدنيا. وفي عصرنا هذا، عندما يتحول "البروليتاريون" القدامى إلى برجوازيين صغار (ويُستبعد الحثالة إلى حد كبير من المشهد السياسي)، ستجد فاشيَّة الغد جمهورها في هذه الأغلبيَّة الجديدة.
7. بالنسبة للأشخاص الذين يشعرون بالحرمان من هوية اجتماعيَّة social identity واضحة، تقول الفاشيَّة الدائمة إنَّ امتيازهم الوحيد هو الامتياز الأكثر شيوعاً، وهو أن يولدوا في نفس البلد. وهذا هو أصل القومية nationalism. إضافَة إلى ذلك، فإن الوحيدين الذين يستطيعون توفير هويَّة للأمة هم أعداؤها. وهكذا فإن جذور سيكولوجية الفاشيَّة الدائمة تكمن في الهوس بالمؤامرة، التي ربما تكون دوليَّة. إذ يجب أن يشعر الأتباع بالحصار. وأسهل طريقة لحل المؤامرة هي مناشدة كراهية الأجانب. لكن المؤامرة يجب أن تأتي أيضاً من الداخل: فاليهود عادة ما يكونون أفضل هدف لأنهم يتمتعون بميزة وجودهم في الداخل والخارج في نفس الوقت. وفي الولايات المتحدة، نجد مثالاً بارزاً على هوس المؤامرة في كتاب بات روبرتسون Pat Robertson "النظام العالمي الجديد" The New World Order، ولكن كما رأينا مؤخراً هناك أمثلة أخرى كثيرة.
8. يجب أن يشعر الأتباع بالإهانة humiliated بسبب ثروة أعدائهم وقوتهم. فعندما كنت صبياً، تعلَّمت أن أفكر في الإنجليز باعتبارهم الأشخاص الذين يتناولون الوجبات الخمس. إذ يأكلون بشكل متكرر أكثر من الإيطاليين الفقراء الهادئين. واليهود أغنياء ويساعدون بعضهم من خلال شبكة سريَّة من المساعدة المتبادلة. ومع ذلك، يجب كذلك على أتباع الفاشيَّة الدائمة أن يكونوا مقتنعين بأنهم قادرون على التغلب على الأعداء. وهكذا، من خلال التحول المستمر في التركيز الخطابي، يصبح الأعداء في نفس الوقت أقوياء وضعفاء جداً. والحكومات الفاشيَّة محكوم عليها بخسارة الحروب لأنها غير قادرة فطرياً على التقييم الموضوعي لقوة العدو.
9. بالنسبة للفاشيَّة الدائمة، لا يوجد صراع من أجل الحياة، بل الحياة تُعاش من أجل النضال life is lived for struggle. وبالتالي فإن السلميَّة مُتاجرة مع العدو. سيئة لأن الحياة عبارة عن حرب دائمة. لكن هذا يؤدي إلى عقدة هرمجدون. وبما أنه لا بد من هزيمة الأعداء، فلا بد أن تكون هناك معركة أخيرة، وبعدها ستسيطر الحركة على العالم. ولكن مثل هذه "الحلول النهائية" تعني ضمناً عصراً آخر من السلام، أو العصر الذهبي، وهو ما يتناقض مع مبدأ الحرب الدائمة. ولم ينجح أي زعيم فاشي على الإطلاق في حل هذا المأزق.
10. النخبويَّة Elitism هي جانب نموذجي لأي أيديولوجية رجعيَّة، بقدر ما هي في الأساس أرستقراطيَّة، والنخبويَّة الأرستقراطيَّة والعسكريَّة تنطوي بقسوة على ازدراء الضعفاء. ولا يمكن للفاشيَّة الدائمة إلا أن تدافع عن النخبويَّة الشعبيَّة. إذ ينتمي كل مواطن إلى أفضل الأشخاص في العالم، والأعضاء أو الحزب هم الأفضل بين المواطنين، ويمكن (أو ينبغي) لكل مواطن أن يصبح عضواً في الحزب. لكن لا يمكن أن يكون هناك أرستقراطيون بدون عامة الشعب. والحقيقة أنَّ القائد، الذي يعلم أن سلطته لم تُفوض إليه ديمقراطياً بل انتزعت بالقوة، يعرف أيضاً أن قوته مبنية على ضعف الجماهير؛ إنهم ضعفاء جداً بحيث يحتاجون إلى حاكم ويستحقونه.
11.في مثل هذا المنظور يتم تعليم الجميع ليصبحوا أبطالاً hero. ففي كل الأساطير، يعتبر البطل كائناً استثنائياً، لكن البطولة في الأيديولوجية الفاشيَّة الراسخة هي القاعدة. وترتبط عبادة البطولة هذه ارتباطًا وثيقًا بعبادة الموت. وليس من قبيل المصادفة أن شعار الكتائب الإسبانية كان ("يحيا الموت!"). وفي المجتمعات غير الفاشيَّة، يُقال لعامة الناس أنَّ الموت أمر مزعج ولكن يجب مواجهته بكرامة؛ ويُقال للمؤمنين أن هذه هي الطريقة المؤلمة للوصول إلى سعادة خارقة للطبيعة. وعلى النقيض من ذلك، يتوق البطل الفاشي إلى الموت البطولي، الذي يُعد أفضل مكافأة للحياة البطوليَّة. والبطل الفاشي يتوق للموت. وبتوقه، كثيراً ما يرسل أشخاصاً آخرين إلى الموت.
12. بما أن الحرب الدائمة والبطولة من الألعاب الصعبة، فإن الفاشي المتشدد ينقل إرادته إلى السلطة إلى الأمور الجنسيَّة sexual. وهذا هو أصل الرجولة machismo (التي تعني ضمناً ازدراء المرأة والتعصب وإدانة العادات الجنسيَّة غير المعياريَّة، من التبتُّل إلى المثلية الجنسيَّة). وبما أنَّ ممارسة الجنس لعبة صعبة، فإن البطل الفاشي المتشدد يميل إلى اللعب بالأسلحة، ويصبح القيام بذلك تمريناً قضيبياً مُصطنعاً.
13. الفاشيَّة الدائِمة تقوم على شعبويَّة انتقائيَّة selective populism، شعبويَّة نوعيَّة، كما يمكن القول. وفي ظل الديمقراطيَّة، يتمتع المواطنون بحقوق فرديَّة، لكن المواطنين في مجملهم ليس لهم تأثير سياسي إلا من وجهة نظر كميَّة، حيث يتبع الفرد قرارات الأغلبيَّة. ومع ذلك، بالنسبة للفاشيَّة الدائمة، لا يتمتع الأفراد كأفراد بأي حقوق، ويُنظر إلى الشعب باعتباره صفة، وكياناً متجانساً يعبر عن الإرادة المُشتركة. وبما أنَّه لا يمكن لعدد كبير من البشر أن يكون لديهم إرادة مُشتركة، فإن القائد يتظاهر بأنه مُجسد تلك الإرادة. وبعد أن فقدوا سلطتهم التفويضيَّة، لا يتصرف المواطنون؛ إنهم مدعوون فقط للعب دور الشعب. وبالتالي فإن الشعب ليس سوى خيال مسرحي. وهناك في مستقبلنا شعبويَّة تلفزيونيَّة أو إنترنيتيَّة، حيث يمكن تقديم الاستجابة العاطفيَّة لمجموعة مختارة من المواطنين وقبولها باعتبارها صوت الشعب. وبسبب شعبويتها النوعيَّة، يجب على الفاشيَّة المسلحة أن تكون ضد الحكومات البرلمانيَّة "الفاسدة". وأينما شكك أحد السياسيين في شرعية البرلمان لأنه لم يعد يمثل صوت الشعب، يمكننا أن نشم رائحة الفاشيَّة الدائِمة.
14. الفاشيَّة الدائمة تتحدث اللغة الجديدة Newspeak. اخترع أورويل Orwell اللغة الجديدة في 1984، باعتبارها اللغة الرسمية لما أسماه إنغسوك Ingsoc، أي الاشتراكيَّة الإنجليزيَّة. لكن عناصر الفاشيَّة الدائمة مُشتركة بين أشكال مختلفة من الديكتاتوريَّة. إذ استعملت جميع الكتب المدرسيَّة النازيَّة أو الفاشيَّة مفردات فقيرة، وتركيباً أوليَّاً للجمل، من أجل الحد من أدوات التفكير المعقد والنقدي. ولكن يجب أن نكون مستعدين للتعرف على أنواع أخرى من اللغة الجديدة، حتى لو اتخذت الشكل البريء ظاهرياً لبرنامج حواري شعبي.
* * *
الفاشيَّة الدائِمة لا تزال موجودة حولنا، وأحياناً بملابس مدنيَّة. وسيكون من الأسهل بكثير بالنسبة لنا إذا ظهر على الساحة العالميَّة شخص يقول: "أريد إعادة فتح أوشفيتز، أريد أن يستعرض أصحاب القمصان السود مرة أخرى في الميادين الإيطاليَّة". لكن الحياة ليست بهذه البساطة. إذ يمكن للفاشيَّة الدائمة أن تعود تحت أكثر الأقنعة براءة. وواجبنا هو الكشف عنها وتوجيه أصابع الاتهام إلى كل حالاتها الجديدة، كل يوم، في كل جزء من العالم. وكلمات فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt في 4 تشرين الثاني 1938 تستحق الذكر: "إذا توقَّفت الديمقراطيَّة الأمريكيَّة عن التقدم كقوة حية تسعى ليلاً ونهاراً بالوسائل السلميَّة لتحسين أحوال مواطنينا، فإن الفاشيَّة سوف تنمو بقوة في أرضنا". فالحريَّة والتحرُّر مهمة لا تنتهي.