اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: الرجل ذو السبعين يحتفل بعيد ميلاده

قناطر: الرجل ذو السبعين يحتفل بعيد ميلاده

نشر في: 2 مارس, 2024: 09:40 م

طالب عبد العزيز

الرجلُ، الخَصيبيُّ جدّاً، ابن الفلاحُ الخصيبيّ، ذو اليد الكبيرة، المولودُ في الاوّل من آذار، قبل عقود سبعة، هو أنا. والكائنُ الذي تعلقت روحه بالسفرجل والفسائل والانهار الصغيرة، الذي أراد أبوه أنْ يجعله على نخيله وأشجاره وابقارة ولم يكن..

هو أنا كذلك، الذي أحتفلَ أبناؤه ليلةَ أمسِ بعيد ميلاده السبعين، وغمروه بالصور والقبل والحلوى، والذي ترفعه المباهجُ أحياناً، فيصيرُ هواءًا،أثيراً.. ولا يخذله تعاقبُ السنين، ولم يعد آبهٌ لصوتِ مؤذن المسجد القبيح، ولم يعدْ يقطبُ بين حاجبيه لأمرٍ في البلاد.. ذاك أنا، وئيد الخطى،الذي يغادر الى فراشه باسماً، وتدور برأسه فكرةُ ماذا سيكتب عن ذلك في الغد!

يجلس على طاولته الآن، ثيابه شتويةٌ، وبسواد أكثر، لا يكتب ولا يقرأ. هناك شجنٌ خفيٌّ يسبح في غورَ روحه، فهو يقلبُ السنوات بأصابعَ الخلوة والامتلاء، باحثاً عنها في أكمام الحيازة والفقد، وهي كثيرة. لكنْه يدركُ بأنَّ ما تحوزه اليوم لا محالةَ، ستفقده ذات يوم، في رحلة الذِّهاب والإيِّاب الطويلة، ومن بين أكفِّ الغرس والجني سيتسلل، لا محالةَ، أيضاً، يومُ الهلاك، وستعصفُ ريحُ آذارٍ آخرَ بما حُزته وكنت عليه، أو صرت اليه. على الرفِّ، أقصى المكتبةِ، ومن مكبّر الصوت تنبعث موسيقى الفصول الاربعة لفيفالدي. لا، ليس ترفاً ثقافياً، ولا إدعاءًا، ولا مستعرِضَاً على الورق ما ليس لي، ولا تشبّهاً بنجيب المانع ومحمود البريكان، لا والله.. إنّما الحاجة لشيءٍ سيأتي. جبلٌ للحب والتوق والحياة في الروح، وآخر مثله جبل للخوف والنأي والفقد.. يصطرعان اللحظةَ خلف حشد الوتريات، ومن كمان منفرد تأتي المباهجُ مرةً ويأتي الكثيرُ من القلق كذلك.

الرجلُ الذي لم يحُزْ نصيباً كافياً من التعليم والمال والأناقة يغزو الشيبُ رأسه الآن، وتخذلهُ عظامُهُ في الوقوف الطويل، حيثُ لم تعد امرأةٌ تنتظره عند الجسر، ولا أخرى في الحديقة العامة، وليس بينهن من كان العشبُ يعلقُ بتنورتها، فيضوع في الطرقات شجنٌ وآسٌ كثير. الرجلُ الذي لا يحبُّ الجلوسَ في المقاعد الامامية، مولودُ غرّة آذار، وبرجُه الحوت، وعلى عينيه نظّاره يكتب الشعرالآن، منزوعَ الوزن والقافية، برئياً من سقم البلاغة والعنعنات. قبل رهطه كان قد قرأ الجاحظ في بيانه وتبييّنه، وفي محاسنه وأضداده.. وأتى على التوحيديّ في مقابساته، وإشاراته إلاهه، وإمتاعه ومؤانسته، ومثل دويبةٍ تسلل إلى أرفف موحشة، بورق وقراطيس كثيرة.. مباهجه قليلةٌ اليوم، فقد توقفت أزاميل الضوء، تقشط أحزانه، اللهم إلا بكأس من نبيذ أحمرَ، أو بأغنيةٍ قليلاً ما تطول. هناك امرأةٌ من لم تعد تزوه في المنام، ومثلها من لا تخطرُ ولا تصلحُ وسادته. الرجلُ الذي يفكر بخاتمة لعموده هذا يشغلهُ أنَّ أولاده لم يعْمَلوا أصابعَهم في الافق، الذي تطلّع اليه.

الرجلُ الذي ظلَّ يُصلحُ للفواخت أعشاشها، ولخيول الصبا أرسانها وأعنتها، ويتفقد، وإلى اليوم أصابع أبيه في لفائف الفسائل والاخصاص النائية، ثم يسرعُ، مقتفياً شكلَ جسدٍ يظنه لأحدِ آبائه، هناك، في الارض التي يغيضُ عنها ماءٌ كثير، لا يني ينتظرُ من يحدثهُ بحديث العائدين من النَّهار، المنتظرين عند مسناة التوت والجلنار، الطالعين من إنهار الفقد والنسيان، والذاهبين بكليتهم، وجُماع قلوبهم الى النور، حيث لم يبق أحدٌ هناك، يدوّنُ في كتاب يومياته شيئاً مما حدث له البارحة، ويعيد سماع فيفالدي وفصوله الاربعة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عدي باش

    عيد ميلاد سعيد يزدهر الصحة و الخير و السعادة .. كل عام و أنتم بهناء و راحة بال

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram