طالب عبد العزيز
الرجلُ، الخَصيبيُّ جدّاً، ابن الفلاحُ الخصيبيّ، ذو اليد الكبيرة، المولودُ في الاوّل من آذار، قبل عقود سبعة، هو أنا. والكائنُ الذي تعلقت روحه بالسفرجل والفسائل والانهار الصغيرة، الذي أراد أبوه أنْ يجعله على نخيله وأشجاره وابقارة ولم يكن..
هو أنا كذلك، الذي أحتفلَ أبناؤه ليلةَ أمسِ بعيد ميلاده السبعين، وغمروه بالصور والقبل والحلوى، والذي ترفعه المباهجُ أحياناً، فيصيرُ هواءًا،أثيراً.. ولا يخذله تعاقبُ السنين، ولم يعد آبهٌ لصوتِ مؤذن المسجد القبيح، ولم يعدْ يقطبُ بين حاجبيه لأمرٍ في البلاد.. ذاك أنا، وئيد الخطى،الذي يغادر الى فراشه باسماً، وتدور برأسه فكرةُ ماذا سيكتب عن ذلك في الغد!
يجلس على طاولته الآن، ثيابه شتويةٌ، وبسواد أكثر، لا يكتب ولا يقرأ. هناك شجنٌ خفيٌّ يسبح في غورَ روحه، فهو يقلبُ السنوات بأصابعَ الخلوة والامتلاء، باحثاً عنها في أكمام الحيازة والفقد، وهي كثيرة. لكنْه يدركُ بأنَّ ما تحوزه اليوم لا محالةَ، ستفقده ذات يوم، في رحلة الذِّهاب والإيِّاب الطويلة، ومن بين أكفِّ الغرس والجني سيتسلل، لا محالةَ، أيضاً، يومُ الهلاك، وستعصفُ ريحُ آذارٍ آخرَ بما حُزته وكنت عليه، أو صرت اليه. على الرفِّ، أقصى المكتبةِ، ومن مكبّر الصوت تنبعث موسيقى الفصول الاربعة لفيفالدي. لا، ليس ترفاً ثقافياً، ولا إدعاءًا، ولا مستعرِضَاً على الورق ما ليس لي، ولا تشبّهاً بنجيب المانع ومحمود البريكان، لا والله.. إنّما الحاجة لشيءٍ سيأتي. جبلٌ للحب والتوق والحياة في الروح، وآخر مثله جبل للخوف والنأي والفقد.. يصطرعان اللحظةَ خلف حشد الوتريات، ومن كمان منفرد تأتي المباهجُ مرةً ويأتي الكثيرُ من القلق كذلك.
الرجلُ الذي لم يحُزْ نصيباً كافياً من التعليم والمال والأناقة يغزو الشيبُ رأسه الآن، وتخذلهُ عظامُهُ في الوقوف الطويل، حيثُ لم تعد امرأةٌ تنتظره عند الجسر، ولا أخرى في الحديقة العامة، وليس بينهن من كان العشبُ يعلقُ بتنورتها، فيضوع في الطرقات شجنٌ وآسٌ كثير. الرجلُ الذي لا يحبُّ الجلوسَ في المقاعد الامامية، مولودُ غرّة آذار، وبرجُه الحوت، وعلى عينيه نظّاره يكتب الشعرالآن، منزوعَ الوزن والقافية، برئياً من سقم البلاغة والعنعنات. قبل رهطه كان قد قرأ الجاحظ في بيانه وتبييّنه، وفي محاسنه وأضداده.. وأتى على التوحيديّ في مقابساته، وإشاراته إلاهه، وإمتاعه ومؤانسته، ومثل دويبةٍ تسلل إلى أرفف موحشة، بورق وقراطيس كثيرة.. مباهجه قليلةٌ اليوم، فقد توقفت أزاميل الضوء، تقشط أحزانه، اللهم إلا بكأس من نبيذ أحمرَ، أو بأغنيةٍ قليلاً ما تطول. هناك امرأةٌ من لم تعد تزوه في المنام، ومثلها من لا تخطرُ ولا تصلحُ وسادته. الرجلُ الذي يفكر بخاتمة لعموده هذا يشغلهُ أنَّ أولاده لم يعْمَلوا أصابعَهم في الافق، الذي تطلّع اليه.
الرجلُ الذي ظلَّ يُصلحُ للفواخت أعشاشها، ولخيول الصبا أرسانها وأعنتها، ويتفقد، وإلى اليوم أصابع أبيه في لفائف الفسائل والاخصاص النائية، ثم يسرعُ، مقتفياً شكلَ جسدٍ يظنه لأحدِ آبائه، هناك، في الارض التي يغيضُ عنها ماءٌ كثير، لا يني ينتظرُ من يحدثهُ بحديث العائدين من النَّهار، المنتظرين عند مسناة التوت والجلنار، الطالعين من إنهار الفقد والنسيان، والذاهبين بكليتهم، وجُماع قلوبهم الى النور، حيث لم يبق أحدٌ هناك، يدوّنُ في كتاب يومياته شيئاً مما حدث له البارحة، ويعيد سماع فيفالدي وفصوله الاربعة.
جميع التعليقات 1
عدي باش
عيد ميلاد سعيد يزدهر الصحة و الخير و السعادة .. كل عام و أنتم بهناء و راحة بال