لا تزال المجتمعات الإسلامية تحتفل بالعديد من الأشكال والطقوس الرمضانية التراثية والشعبية في استقبال هذا الشهر الكريم وإعلام الناس وإخبارهم بذلك استعداداً له واستشعاراً للحالة الدينية والاجتماعية التكافليّة وزيادة أواصر الاخوة في مختلف المدن العربية والإسلامية، وذلك بتنوع مظاهره الإيمانية والتي تزيد من روحانية هذا الشهر وأهميته عند المسلمين والتي تتضح جليّة على وجوه الأطفال وتزدان الشوارع وترتدي حلّتها المختلفة في هذا الشهر من كل عام،
ويستعدّ المسلمون في كل بقاع المعمورة لهذا الضيف منشدين: «مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيباً زارنا فـي كل عام. قد ألفناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام».وقد اعتمد إعلان الامساك والافطار في العهد النبوي على نداء المؤذنين والذي اشتهر به الصحابيان الجليلان بلال بن رباح وعبدالله بن أم مكتوم، وحاول المسلمون مع زيادة الرقعة المكانية وانتشار الفتوحات الإسلامية أن يبتكروا الوسائل المختلفة في الاعلان عن رمضان إلى جانب الأذان حتى ظهر مدفع رمضان «الإفطار» إلى الوجود في العهد العثماني وأول ما بدأ استُخْدِمَ في مصر.وعلى رغم اختلاف الباحثين في تاريخه إلا أن الشائع هو أن إطلاق مدفع الإفطار للمرة الأولى كان عن طريق الصدفة عند غروب أول يوم من شهر رمضان عام 859 هـ عندما أُهدي إلى السلطان «خوشقدم» مدفع فأراد تجربته للتأكد من صلاحيته فصادف إطلاقه وقت المغرب من أول يوم في رمضان ففرح الناس اعتقاداً منهم أن هذا إشعار لهم بالإفطار وأن السلطان أطلق المدفع لتنبيههم إلى أن موعد الإفطار قد حان في تلك اللحظة، وعندما علم السلطان سعادتهم بذلك أمر باستمراره وزاد على مدفع الإفطار مدفع السحور ومدفع الإمساك، وكان يُستخدم فيه الذخيرة الحية واستبدلت في ما بعد «بالبارود»الخفيف وانتقل بعد ذلك الى مختلف الدول العربية... والمدفع هو عبارة عن ماسورة من الصلب ترتكز على قاعدة حديد تتوسطها عجلة لتحريك ماسورة المدفع، وترتكز من ناحية على الأرض ومن ناحية أخرى على محور حديدي يتوسط عجلتين كبيرتين من الخشب او الحديد تساعدان في تحرك المدفع من مكان الى آخر. كما يُعدّ «فانوس» رمضان «المصباح» رمزاً مكمّلاً لمظاهر هذا الشهر، وتعود علاقة المدن الإسلامية به إلى ما رواه المؤرخون عن عبدالملك بن مروان -الخليفة الأموي- عندما حج الى بيت الله وأصدر أمره بإضاءة الصفا والمروة وتعليق المصابيح بها حتى تسهّل للمعتمرين والحجاج السعي. وتختلف الروايات حول الفانوس وتحويله الى رمز رمضاني الا ان الارجح منها يؤكد انه وبعد دخول المعزّ لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة ليلاً في 358هـ واستقبال الأهالي له بالفوانيس أمر بعد ذلك بإبقائها طوال الشهر حتى أصبح هذا التقليد مما يميز ليالي رمضان عن بقية الشهور، وفي أيامنا هذه وقبل قدومه بقليل يبدأ الأطفال في شراء الفوانيس والتجول بها في أرجاء الحي، وكثير من الناس اعتاد تعليق فوانيس كبيرة وملونة في الشوارع وأمام المنازل وفي الحدائق ابتهاجاً بزائرهم الجليل. وكان يصنع الفانوس من الفخار ثم النحاس ثم الصفيح والزجاج، ويضيء عن طريق زيت الزيتون أو الخروع أو الودك وفتيل الكتّان، ثم أصبح يوضع في داخله شمعة، وتصنع الفوانيس الحديثة اليوم من البلاستيك وتعمل بالبطاريات ولها أحجام وأشكال متعددة. ولم تكن لتكتمل فرحة رمضان من دون أن يحضر «المسحراتي»، الرجل الذي يتجول في أحياء المدينة، ناقراً على طبلته ومنشداً أبياته الشعبية الخاصة برمضان وبعض القصائد النبوية ومهللاً ومكبراً، حتى يستيقظ الناس على صوته الجهوري «يا نايم وحدّ الدايم» أو «سحور يا عباد الله» استعداداً للسحور وصيام يوم جديد.. وينحصر عمل المسحر في هذا الشهر الفضيل فقط، اذ يبدأ جولته قبل الإمساك بساعتين تقريباً وقد يرافقه شخص آخر يحمل فانوساً لينير له الطريق في بعض الأماكن المظلمة خصوصاً الريفية وحينما يأتي العيد يبدأ جولاته الأخيرة مودعاً شهر رمضان ومبشّراً بقدوم عيد الفطر المبارك، وفي هذه الأيام قلّ إن لم ينته وجود المسحراتي لاعتماد الناس اليوم على بدائل كثيرة ومنها المنبهات الحديثة.وفي ما يبدو اليوم أن ثورة الحياة العصرية قضت على معظم مظاهر رمضان السابقة، ولكن بعض الأفراد ما زال يشعر بالحنين إليها ويعوّد أبناءه على بعضها. يقول محمد: اشعر وأنا في سني هذا أن الزمن يمضي ولا ينتظر أحداً، بل ويجرف معه أشياء جميلة، وكنا نعيش رمضان بكل أشيائه، فكان مدفع رمضان قبل أعوام قليلة يصدح ، ولكننا لم نجده بعد ذلك وأيضاً انتهى زمان المسحراتي صاحب المهنة الشريفة، وأصبحنا نعتمد على ساعة المنبه وبعض الناس خصوصاً في ظل إجازة رمضان لهذا العام لا ينام حتى الفجر ولا يحتاج إلى منبه، ولم يبق لنا سوى الفوانيس التي أحاول تعويد أبنائي عليها وشرائها لهم في رمضان.ولا يخفي عبدالعزيز نعمة الله أسفه على اندثار بعض معالم رمضان ومظاهره الروحانية «كنا نسمع صوت المدفع وترتسم على وجوهنا حين سماعه علامات الفرح والابتهاج بقدوم هذا الضيف الجليل وعند التأكد من قدوم العيد يطلقون ضربات عدة إثباتاً لذلك، مضيفاً ان منطقتنا كانت تشهد تجوّل المسحراتي في وقت سابق قبل أن
متى أطلق مدفع رمضان أولى إطلاقاته؟
نشر في: 1 سبتمبر, 2010: 07:58 م