د. حسين الهنداوي
(3)
ظل تحديد المصدر الذي استقى منه المؤرخ البابلي برعوشا- بيروسوس، معلوماته الواسعة التاريخية وغير التاريخية المباشرة والواقعية، وخاصة حول ولادة العالم والأزمنة الأولى لحضارة بلاد الرافدين، مثار استفهامات وتكهنات علماء الآثار لفترة طويلة قبل الميلاد.
بيد ان الرأي الذي رجُح على الدوام، هو أن هذا المؤرخ، وبصفته كبير كهنة المعبد الرئيسي ببابل، كان يستطيع الوصول إلى وثائق غير معروفة بشكل واسع او غير متاحة لكثير سواه، فيما منحه انتشار اللغة اليونانية وآدابها في بلاده وغرب آسيا، نتيجة الفتوحات المقدونية، فرصة ثمينة في الاستفادة من اساليب المؤرخين اليونانيين وربما الفلاسفة فضلا عن الوصول الى وسط ثقافي وسياسي متطلع لمعرفة الماضي والحاضر وبالتالي متلهف الى مثل تلك المعلومات والمعارف القادمة من اقبية المعابد والمعاهد البابلية الخاصة والغائبة خارج اوساط طبقة الكهنوت العليا.
وهذا الرأي وجد في العصر الحديث تأكيدًا متزايدًا منذ ان صار ممكناً فك اسرار الكتابة السومرية على يد هنري رولنسون في منتصف القرن التاسع عشر، وازدياد ترجمة نصوصها المجهولة تماما من قبل الامر الذي كرّس حقيقة ان السومريون والبابليون هم الرواد في اختراع الكتابة والحروف وتدوين الشرائع ووضع اول خريطة للعالم الملموس وابتكار اولى النظريات في الرياضيات والفيزياء والهندسة والطب والزراعة والاقتصاد والفلك والسياسة والموسيقى وجدلية العلاقة بين العالم الالهي والانسان. وكلها من المعارف المجهولة قبل منتصف القرن التاسع عشر.
وقد عزز هذا اليقين، قيام علماء الآثار لا سيما البريطاني السيد جورج سميث، بفك رموز ألواح مسمارية اخرى حملت لنا اقدم واكمل نص الى الآن عن "قصة الطوفان". وهو نص لا مجال للشك بانه اصل نفس القصص الواردة في الكتب اليهودية والمسيحية المقدسة حول نفس الموضوع، كما حملت الالواح المسمارية المكتشفة نصوصا عن خلق العالم والانسان وكتابات ادبية وتاريخية ودينية اخرى كشفت المقارنة بشأنها أنها نفس الألواح التي استمد منها برعوشا بعض معلومات كتابه "البابلونيكا" منها وقد يكون نقلها عنها حرفيا احيانا. وهذا يفسر بداهة التوافق الملحوظ الذي نجده بين العديد من الافكار والنقاط التي تتضمنها كتابات برعوشا والمعلومات التي توفرها الألواح المسمارية تلك.
بيد ان تأليف برعوشا كتابه هذا باللغة اليونانية يكشف بالمقابل عن ظاهرة جديدة لصيقة بالفترة الهلنستية وهي اتقان عدد متزايد من المثقفين البابليين لتلك اللغة ولقواعدها واساليبها الى حد الكتابة الفكرية بها، ما يوحي أيضا بسعة معرفة بالأدب الكلاسيكي اليوناني بوجه عام، وتدل كذلك على الاقتناع بان المؤرخ ينبغي ان يتقن بعض اللغات الحية الرئيسية المحيطة به وخاصة ذات النفوذ العالمي والمعارف الرصينة كاليونانية. ولدينا مؤشرات وافية للتيقن من ان برعوشا درس الدين والتاريخ والآداب دراسة معمقة في العاصمتين السياسية بابل والدينية بورسيبا حيث كان يوجد معبد اله الحكمة نابو، زانه عمل معظم سنوات حياته في بلاده أستاذا للفلك والهندسة الى جانب العلوم الدينية متنقلا بين بابل وسلوقيا قبل ان يذهب، وهذا غير مؤكد في نظرنا، للعيش في أثينا لفترة من الزمن حيث عمل في تدريس التاريخ والفلك والجغرافيا والرياضيات كما يرى بعض الباحثين الغربيين.
ويذكر بليني في كتابه "التاريخ الطبيعي"، ان الاثينيين أحبوا هذا الاستاذ البابلي لغزارة علمه الى حد انهم أقاموا له في أثينا تمثالاً من رخام بلسان من ذهب" تقديرا لحكمته وحسن اخلاقه ورصانة خطبه ونصائحه وإخلاصه في العمل معهم! قبل ان يغادرهم عائدا الى بلاده نهائيا حيث يرجح بليني أن برعوشا توفي في مسقط رأسه بابل. لكن هناك مصادر لاتينية أخرى تفيد بانه وبعد فترة من عودته اليها من اليونان، غادر بابل من جديد متوجها الى جزيرة كوش (Kos) الايونية (شمال شرقي كريت) حيث اقام مرصدا فلكيا، وأسس مدرسة خاصة لتعليم الفلك والعلوم الشرقية. لكننا نعتقد ان هذه المعلومة تنطوي على تضارب زمني واضح قد يكون سببه تشابه في الأسماء مع مفكر آخر او نتيجة أخطاء النساخين او غير ذلك.
وتؤكد مصادر يونانية ورومانية عديدة، ان برعوشا كان اول من علم اليونانيين فكرة ترقيم البيوت كما ينسب له نقل الكثير من الافكار والعلوم والمعارف البابلية الى اليونانيين فضلا، بشكل خاص، عن تزويدهم بأول مؤلف موسوعي وباليونانية عن تاريخ بلاد بابل وحضارتها اذ يقال انه وضعه بعد ان صدمته بساطة معرفة المفكرين والمؤرخين اليونانيين ببلاده وتاريخها، وهزال تصوراتهم ومعتقداتهم عن ديانات شعب ما بين النهرين والشرق عامة. ولا ريب فان برعوشا قصد من تأليف الكتاب، تصحيح تلك التصورات واشعار العالم بعظمة حضارة وتاريخ بلاده العريقة في القدم والتعريف بحكمتها ومنجزاتها كمهد للحضارة الانسانية وللفكر الواقعي. وهو نفس الهدف الذي اراد الملك أنطيوخس الأول تحقيقه من تكليف برعوشا بتأليف كتابه الموسوعي عن التاريخ البابلي (البابلونيكا)، بعد ان ثبت ان معظم المؤلفات التاريخية والفكرية اليونانية والهلنستية تخطئ الى حد الاسفاف احيانا عند الحديث عن بابل فيما تصب بعض الكتابات التوراتية كل حمم الغضب والتشويه عليها حيث اللعنة على بابل البابليين والكلدانيين وردت مرارا في "العهد القديم" من "الكتاب المقدس"، من بينها ما جاء في (سفر ارميا: 50/39) حيث نقرأ: "سيف على الكلدانيين يقول الرب، وعلى سكان بابل وعلى رؤسائها وعلى حكمائها...".
حتى المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي يخبرنا ان "بابل تفوق في بهائها كل مدينة أخرى في العالم" ويصف بشكل عام جدا عمرانها واسوارها وبعض الروايات الطريفة عنها في تاريخه المكرس بشكل تام عمليا لتاريخ بلاده وحروبها الداخلية وضد الاحتلال الفارسي الاخميني لها، لا يتطرق الى ملوك بلاد ما بين النهرين بما فيهم ملوك الامبراطوريتين الاخيرتين الآشورية والبابلية، اذ لا نجد لديه إشارة تذكر الى تاريخهما السياسي او العسكري وحتى الحضاري الا عرضا بينما كان ادوار بلاد ما بين النهرين عظيمة التأثير على مصير الشرق الأدنى وعموم العالم القديم، لا سيما وان المدونات البابلية المكتشفة حديثا تؤكد ان تأسيس بَابِل يعود إلى منتصف الالف الثاني ق.م. وان كانت مدينة ساحرة كما يقول العهد القديم، وواسعة جدا كما يقول ارسطو في كتابه "السياسة" معترفا للبابليين بالتفوق العلمي عالميا في مجال انجازات علم الفلك وللمصريين في علم الرياضيات ما يدحض الزعم بان ارسطو كان ينظر إلى غير اليونانيين نظرة تفوقية مزعومة.