ستار كاووش
يذهب جاري المتقاعد العجوز روب وزوجته بيانكا عادة في إجازات طويلة، حيث يقضيان بضعة أشهر من كل سنة خارج البيت، هما لا يحبان السفر الى خارج هولندا، وبدلاً من ذلك يضعان كل ما يحتاجان اليه في الكرفان المربوط بباصهما الصغير،
وينطلقان بحثاً مكان داخل البلد. حتى صرتُ لا أتخيلهما دون هذا الكرفان الذي يترنح خلف الباص وكإنه خزانة عجيبة مليئة بالأكل والشرب والملابس وأدوات الطهي والشراشف وأغطية النوم والكتب وغيرها الكثير. وحين تعجبهما إحدى القرى أو الأماكن الزراعية البعيدة، يقرران التوقف هناك للتمتع بحياتهما التي تُذكرني بحياة الهيبيز. قبل بضعة أيام بدأت سفرتهما، وقد إختارا هذه السنة واحدة من القرى التي تُحيط بمدينتنا، حيث قررا إيقاف الباص والكارفان الذي يتحول من جراء الترنح الى كتلة واهنة، وكإنه جارنا الكسول بيرت الذي لا يقوى حتى على رد السلام. وسط ذلك الكامب الزراعي، نصبا خيمتهما الصغيرة على المرج الأخضر الملائم لمثل هذه المناسبات وإبتدأت إجازتهما، تُحيطهما مجموعة أخرى من الكرافانات التي جاء أصحابها للإستجمام أيضاً، حيث يدفع كل منهم لأهل المزرعة أو الأرض مبلغاً بسيطاً عادة، لقضاء الايام المتفق عليها هناك، ويمكنهم بذلك إستعمال الماء والحمامات المخصصة للكامب. البارحة إتصلت بى بيانكا من الكرفان حيث المزرعة السعيدة، وسألتني (ستار، هل لديك رغبة بزيارتنا وقضاء بعض الوقت معنا؟)، وأشارت الى أن الطريق يمكن قطعه خلال ساحة واحدة بالدراجة الهوائية، وأكدتْ بأنها سَتُحضِرَ لي بعض الشراب الذي أحبه، فوافقت مباشرة على إقتراحها الجميل، وهي مناسبة للحركة والتمتع بأجواء الطبيعة. في ظهيرة اليوم التالي إنطلقتُ نحو الجاران مع فضول كبير لرؤية المكان، وحين إجتزتُ أول قرية صغيرة تُحاذي مدينتي، بدأ المطر بالسقوط، وقد كان خفيفاً أول الأمر فأكملتُ طريقي دون إهتمام، ومضيتُ بين المزارع بعد أن رفعت قلنسوة الكنزة فوق رأسي، لكن مع تقدمي بالدراجة إزدادت شدة المطر حتى صارت شآبيبه تغطي الطريق الذي أمامي. جاهدتُ للوصول الى أطراف قرية صغيرة أخرى، وهناك لجأت الى محطة بانزين ذاتية التعبئة وإحتميتُ تحت سقفها الكبير. إتصلتُ بروب وأخبرته بأني سأتأخر قليلاً بسبب المطر، وأنا أنتظر الآن تحت محطة بانزين بجانب قرية أوبيندا، أخذ المطر بالإزدياد، وبدا كإنه لا ينوي التوقف بوقت قريب، فألقيتُ نظرة على جوانب المكان، فلم أرَ سوى محلاً خلتَهُ مقهى صغيرة أو شيء من هذا القبيل، فتركت الدراجة تحت سقف المحطة وخطوت نحو هذا المحل بلونه الأزرق الذي بدا بفعل المطر كإنه واحدة من لوحات مونيه. فتحتُ الباب، فغمرتني روائح متعددة لزهور كثيرة كادت تسد الطريق. وفيما أنا أتلفتُ بين زوايا المكان بحثاً عن شيء أشربه وأنتظر توقف المطر، فإذا بإمرأة في الثلاثين من عمرها، أشرقت من خلف الزهور بفستانها البرتقالي وكنزتها الملونة قائلة (يومك طيب، هل يمكنني تقديم أية خدمة لك؟) فـأجبتها وأنا أحاول أزالة الماء عن جبيني (عفواً، يبدو إن المكان غير ما توقعته، كنت أرغب بشرب قدح قهوة) فأجابت (هذا محل لبيع الزهور والهدايا) ثم أكملتْ وهي تشير الى الجهة التي جئتُ منها (هناك مقهى صغيرة تبعد مائتي متر تقريباً، تبدو غير واضحة وعليك أن تعطف قليلاً الى جهة اليسار). نظرتُ الى الخارج فبدا المطر أشد قوة، مع ذلك شكرتها وهممتُ بالخروج والانتظار تحت سقيفة محطة البانزين، فأوقفتني مبتسمة وهي تقول (إنتظر، لا يجب أن تنتظر في الخارج ولا أن تذهب الى تلك المقهى في هذا الطقس) ثم أردفتْ (لدي كاباتشينو جيد، هو لإستعمالي الشخصي، ومن الرائع أن تشاركني إياه). شكرتها على عرضها اللطيف وعدتُ الى الداخل، وبينما هي منشغلة بتحضير الشراب الساخن تبادلنا أطراف الحديث وعرفت بأن إسمها ساسكيا وهي تعمل هنا منذ ثلاث سنوات وبيتها قريب في ذات القرية. كانت الابتسامة لا تفارقها أبداً، وبعد أن وضعت قدح البورسلين الأزرق أمامي، والذي بدا كإنه زهرة توليب كبيرة، قالت (في هذا الجو الماطر لا أنتظر أن يأتي أحد لشراء الورد والهدايا)، وهكذا قضينا الوقت بالحديث، وحكيت لها عن موعدي مع جاراي اللذان يقضيان اجازتهما في قرية فارتن. أثناء الحديث سألتني أين أعيش وماذا أعمل. فقلت لها بأني أعيش في دراختن، وأنا رسام، ومرسمي أيضاً هناك وهو ملاصق للبيت، وأعطيتها العنوان قائلاً (عليك المجيء لزيارتي كي أرد لك كرمك وتشربين عندي القهوة، يُضاف اليها نسخة من أحد الكتب التي تضم لوحاتي) ثم أريتها صوراً لبعض أعمالي من خلال التلفون، فأبدتْ دهشتها قائلة بأنها تحب هذا النوع من الرسم، وستزورني حتماً، وأضافت بأنها تتبضع أسبوعياً من مدينة دراختن. مرَّ الوقت وأنا أحدثها وأتأمل قرط الفضة الذي يلمتع كلما تحركت، والمطر لا يريد التوقف، وفوق هذا جاراي ينتظراني في هذا الجو الغريب. فكرتُ قليلاً ثم قررتُ إكمال طريقي نحوهما، وحين هممتُ بفتح الباب، فوجئتُ برؤية روب يقترب بباصه الأبيض ويستدير، ليقف أمام محل الزهور، ثم يترجل قادماً نحوي بقامته الطويلة. وهكذا وضعنا دراجتي داخل الباص، ثم ودعتُ ساسكيا شاكراً لها لطفها، وإنطلقنا نحو الكامب. وهناك كانت الطاولة عامرة ببعض الأكلات الصغيرة والمشروبات وطبعاً الحكايات التي لا تنتهي، والتي تركز قسم كبير منها حول الزهور وبائعة الزهور. توقف المطر في المساء وعدتُ الى المرسم، وبعدها ببضعة أيام رن جرس الباب، فتحته بسرعة وإذا بساعي البريد يسلمني رول الكانفاس الذي حجزته قبل أيام (كنتم تظنون مثلي بأن ساسكيا هي التي طرقت الباب، لكنها ستأتي حتماً في يوم قادم، وعندها سأحكي لكم عن كل التفاصيل).
جميع التعليقات 1
امين ملك / كندا
مقاله ممتعه. واصل عطاءك فنا وكتابة