حيدر المحسن
-2 -
كانت المدينة التي ولدت فيها، "العمارة"، تضمّ خليطا عجيبا من العرب والفرس والأكراد والصّابئة والأرمن والكلدان واليهود والشّيشان. كانت منبعا إنسانيا متنوّع اللّون والشّكل، ويتكلم أبناؤها بالنتيجة مختلف اللّغات.
الحيّ الذي رأت فيه عيناي النور اسمه "التوراة"، وبالقرب من بيتنا كانت الصلاة تقام في كنيس يهوديّ جميل البناء. ذلك الطيف الأسطوري الذي بُعِث في أثناء نومي وأنا خارج البلاد ربما كان كلمة يهوديّة الأصل، أو صابئية، أو كردية، كما أن هناك احتمال أن تكون "أووليه" ذات جذر بابلي أو آشوريّ أو أخمينيّ، بويهيّ أو سلجوقيّ... فقد تبخّر اللحم والشحم والجلد من اللهجات القديمة، لكن هيكلها العظميّ باقٍ، وإذا صار هذا رمادا فإنه يظلّ حيّا في الريح، تذروه، ليعود وينبت من الأرض.
لا توجد لغة صافية من المنبع إلى المصبّ، فقد تبلبلت الألسن كلّها بعد سقوط بابل، وعظام لغة هذه البلاد لم تمت، ولا أيّ بلاد. "كلّ لغة هي أوقيانوس فيه ملايين الأسماك" على حدّ تعبير الشّاعر سركون بولص، وكانت الآشورية لغته الأم، تأتيه تعابير وكلمات منها من أيام الطفولة، ولا يستطيع تحويلها إلى شعر باللغة العربية. يقول بولص: "الآشورية لغة جميلة جدا، أبكي أحيانا لأنها تموت، وأراها تحتضر أمامي. إن موت اللغة شيء مذهل. أكبر جنازة في التاريخ هي أن تموت لغة".
ولكن اللغة لا تموت، إذا كان من يتكلّمها حيّا، وتبقى محفوظة في ذاكرة الأجيال الذين يسكنون الأرض نفسها وفي خيالهم. إنها ماضيهم ومستقبلهم، وحاضرهم الفعلي. وينطبق الأمر على "الأوولية"، وقد سقطت من أدراج ذهني العليا إلى أرض حياتي، وهي تحمل حتمًا معناها الذي لولاه لما كانت، وما كنتُ، فالكلمات هي التي تخلق الواقع وتمنحه الحياة، وليس العكس. ولتفسير هذا الأمر علينا أن نعود قليلا إلى الوراء...
في كتاب التكوين "سفر يتزيرا" الذي يرجع زمن تأليفه إلى القرن السادس نقرأ عن يهوه ربّ الجيوش، وربّ إسرائيل، أنه خلق الأكوان من الأعداد الأصلية (من الواحد إلى العشرة) ومن الحروف الألفبائية الإثنين وعشرين: "اثنان وعشرون حرفا أساسيّا خطّها الله ونقشها وركّبها ووزنها وبذلها ثم خلق منها كلّ شيء كائن وكلّ شيء سيكون". ثم يكشف لنا الكتاب أيّ الحروف له السلطان على الهواء، والحرف الذي له السلطان على الماء، والذي له السلطان على النار، والذي له السلطان على الحكمة، والذي له السلطان على النوم، والذي له السلطان على الغضب، وكيف استُعمِل حرف الكاف الذي له سلطان على الحياة في خلق الشمس ويوم الأربعاء في الأسبوع والأذن اليسرى في الجسد. ويذهب المسيحيّون إلى أبعد من ذلك؛ فلديهم إيمان جازم بأن الله كتب كتابين، الأول يضمّ النصوص القدسيّة، والثاني هو كتاب المخلوقات الذي يكشف قدرته، وهو مفتاح الكتاب الأول. وفي كتاب المسلمين المقدّس، القرآن، نقرأ في سورة الرعد "يمحو الله ما يشاء ويُثبتُ وعنده أمّ الكتاب"، وهذا هو الكتاب الأول، وهو محفوظ في السماء، والكتاب الثاني نسير على صفحاته على أديم الأرض.
نفهم من هذا كلّه أن الأديان الثلاثة تتفق مع ما قاله الفرنسي الشهير مالارميه: "العالم موجود ليصوّر في كتاب"، ومعنى هذا أن هناك رابطة قويّة ومباشرة وقريبة بين كلمة الخالق والشيء المخلوق: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كُنْ فيكون" سورة ياسين 82، أي أنّ الكلمة تأتي أوّلا، ومن ثمّ يوجد الشيء. فإذا كانت كلمة "أولييه" ملفوظة من قبل الربّ ومحفوظة في كتاب في السماء، فلابدّ أن يكون لها معنى أو نظير بيننا. إنها مخلوق حيّ، والحيّ لا يموت أبدا، مثلما يقول الدّين والمنطق والعلم.
ثم جاء لي يوما خاطرٌ أنني لو لم أعثر على معنى لها، أو نظير، فربما كانت هي الجزء المفقود من الأرض، والذي يبلغ حجمه بقدر حجم القمر، ويقع في أعماق أحد المحيطات، وكان من جرّاء اصطدام نيزك بكوكبنا قبل مئات الألوف أو الملايين من السنين. هل كنت مسرفا في خيالي؟ لا أدري...